تاريخ النشر: 26 تشرين الثاني 2024

الفلسطينية لينا خلف تفاحة.. "شيء عن الحياة"!

 

كتب يوسف الشايب:

 

دعت الشاعرة الفلسطينية الأميركية لينا خلف تفاحة الكتّاب إلى استخدام قوة الكلمات ومنابرهم للمطالبة بإنهاء الإبادة الجماعية في غزة، وذلك خلال تسلّمها جائزة الكتاب الوطني للعام 2024 عن فئة الشعر، مساء يوم الأربعاء الماضي، عن ديوانها الشعري المتحور حول فلسطين، ويحمل عنوان "شيء عن الحياة".
وقالت تفاحة، التي توجت مرتدية المُطرّز الفلسطيني: "أريد أن نشعر بعدم الارتياح والارتباك والغضب، ونقوم ونطالب أي إدارة مهما كان الحرف الموجود في نهاية اسمها، بوقف تمويل وتسليح عمليات الإبادة الجماعية في غزة".
وكانت مؤسسة الكتاب الوطني، وشريكتها الإعلامية ذا نيويوركر، أعلنت في 12 أيلول الماضي عن القائمة الطويلة لجوائز الكتاب الوطني للعام 2024، وفي الأول من تشرين الأول، تم الاحتفال بتفاحة كواحدة من المرشحين الخمسة في القائمة النهائية عن فئة الشعر، قبل تتويجها بالجائزة عن مجموعتها التي وصفها ناشرها بالقول إن "شيء من الحياة" تستكشف "الحياة الفلسطينية عبر عدسة أميركية، وبلغة ابنة بلديها"، كما هي مجموعة تكشف عن "إرث من التشويش والمحو"، وكأن تفاحة تتساءل فيها: ماذا يحدث عندما تسمح اللغة فقط بتجهيز الكوارث المستمرة بشكل أنيق للاستهلاك، وربّما التخلص منها لاحقاً؟!
ووجدت اللجنة المُحكّمة أن المجموعة تحشد تاريخ فلسطين والتحديات التي تواجهها الشاعرة في عالم مليء بالعنف، عبر موضوعات من بينها: الشتات، والاستعمار، والجشع، بالإضافة إلى الأمل والمسرّات الصغيرة التي يتمسك بها الناس من أجل البقاء.
وتفاحة شاعرة وكاتبة مقالات ومترجمة من أصل فلسطيني، ولها عديد المجموعات الشعرية، منها: "ماء وملح"، التي فازت بجائزة ولاية واشنطن للشعر في العام 2018، و"كان وأخواتها"، وهي عادة ما تعالج قضايا تتعلق بفلسطين، وتجارب الأجيال المتعاقبة من المهاجرين عامة، والفلسطينيين خاصة إلى الولايات المتحدة الأميركية، عبر موضوعات مثل الهوية عامة، والهوية الثقافية خاصة، والحدود، واللغة، وغيرها.
وفي حوار مع تفاحة، أجرته بالإنكليزية الصحافية والكاتبة المستقلة الأميركية آنا راجاجوبال، ونشر في العشرين من الشهر الجاري عبر مدونتها الخاصة في الموقع الإلكتروني لمؤسسة الدراسات الفلسطينية، أشارت إلى أنها ولدت في الولايات المتحدة ولكنها لم تعش صباها فيها، فقد عادت إلى الولايات المتحدة من الأردن، عشية حرب الخليج الأولى، خلال بداية عامها الأول في المدرسة الثانوية، لذلك كان عليها أن تكون عربية أميركيّة في الوقت نفسه، ولكن لديها أيضاً نسخة من تجربة الهجرة.
وأكدت في ذات الحوار: لا أعلم أن أفكر في النسيان كرفاهية، بل أفكر فيه ككارثة.. هناك ملايين الفلسطينيين الذين لا يعيشون في فلسطين، بل يعيشون في مخيمات اللاجئين، ومنهم من يعيش في مخيمات اللاجئين داخل فلسطين، ولكن ليس في بلداتهم ومدنهم وقراهم الأصلية، وهناك أيضاً العديد من الفلسطينيين، الذين يعيشون في الشتات، لذلك، يتم اقتلاعهم من تجربتهم الحياتية الخاصة بالمكان والثقافة واللغة، وبالنسبة لشعب لديه حركة تحرر وطني، تعد الذاكرة أمراً حيويّاً، ليس فقط الذاكرة الجمعية، ولكن أيضاً الذاكرة الفردية المَعيشة أو الموروثة من العائلات والآباء.
"الدور الذي يجب أن تلعبه الذاكرة في حياتنا يتم من خلال الظروف الشخصية لتلك الحياة.. الذاكرة التي تصبح أدب غسان كنفاني، ومعجم محمود درويش تُرسّخنا، نحن الذين لم نتمكن من العيش في المنزل، ولا في الثقافة والتاريخ".
وشددت تفاحة على أنه "لا يمكننا النجاة من محاولات الإبادة دون الدور المركزي للذاكرة الجمعية، وهذا صحيح عبر الثقافات التي شهدت دماراً مماثلاً، أو محاولات للتدمير، لكن يجب أن تكون هناك طريقة للتنقل في الذاكرة الجمعية، بعيداً عن تَصنّم الذاكرة، وفي بعض الأحيان تحتاج الأمور إلى معالجة خشنة في الشعر، ومن هنا كانت قصائد الجيل الأول، وسيلة للتنافس مع ما يعنيه العيش بهذه الطريقة، وكيف يبدو ذلك وكيف يبدو من الداخل، والطرق التي يمكن أن تفشل بها، ومن هناك كان المثل الأعلى لإعادة سرد الذاكرة، ولكن هناك أيضاً حقائق التوقعات القصوى الموضوعة على هذا السرد والذاكرة التي تصطدم بالزمن، لأنه مع مرور الأجيال، هناك خسارة لا يمكن استردادها.. كنت أحاول التفكير في ذلك، بينما كنت أكتب بطريقة لا تجعلها ثمينة للغاية".
وما بعد الحديث المطوّل عن قصائد بعينها، في الحوار المُشار إليه، شدّدت تفاحة على أن "العنف سمة عادية جداً للحياة الفلسطينية في ظل النكبة الممتدة والإبادة الجماعية والاحتلال.. إنه أمر صادم ومتطرف بالنسبة لنا نحن الذين لديهم مسافة معينة منه، جغرافيّاً، سواء كنا فلسطينيين لا نعيش تحت هجومه المباشر، أو مجرد أشخاصٍ ليسوا من فلسطين أو مرتبطين بأي شكل من الأشكال بفلسطين، أولئك الذين يستهلكون الصور أو مقاطع الفيديو أو التقارير عما يحدث للفلسطينيين.. هذا أحد المواضيع المتكررة لمحاولة الكتابة من داخل التجربة الفلسطينية، ومحاولة التعبير عن وجود مستوى لا يسبر غوره من العنف الذي يتم تطبيعه في كل جانب من جوانب الحياة".
في القصائد التي أجدها مدوية والتي بقيت معي على مر السنين، يقوم الشعراء بحركتي "التكبير" و"التصغير".. هناك توازن في القدرة على إظهار الحجم من خلال التركيز عن كثب، بينما العنف يريد أن يصدم ويطغى، فبالإضافة إلى طبيعته المدمرة، يَستخدم المُضطهِد أو المُستعمِر العنف لسحق المُضطهَد أو المُستعمَر، والتغلب عليه، ولكن هناك أيضاً عامل صدمة يهدف إلى جعلك غير قادر على التعبير عن نفسك، أو فهم تجاربك أو وضع هيكل لها، تؤكد تفاحة، التي أضافت: كانت الطريقة التي حاولت بها التنقل في ذلك، وعبر تجربتي الفلسطينية الخاصة، تكمن في النظر إلى كل الأشياء، ومحاولة الإمساك بالأشياء الصغيرة جداً والنطاق الواسع أو الأكثر اتساعاً في الوقت ذاته، وباعتباري ثنائية اللغة تماماً، فكما لم أترعرع في أميركا، لم أترعرع في ثقافتها أيضاً، كان يجب أن أحصل على تلك النظارات التي يمكنني من خلالها الحصول على موقعي، بعد تلمّس خطواتي، عندما أنتقل، وهو ما ينطبق على غيري، إلى مكان جديد، شريطة أن أرى الأشياء من خلال عدسة تجربتي الخاصة، وبشكل مختلف عن الطريقة التي يرغب بها الأشخاص الذين يصنعون الثقافة في هذه البلاد.
"بالنسبة للكثيرين منا، الذين نشؤوا في العالم العربي ويأتون إلى هنا، فإن القدوم إلى الولايات المتحدة يفترض الرغبة في التعامل مع مجموعة من الأنظمة التي ليس لها مصلحة فينا أو في بقائنا، ناهيك عن ازدهارنا.. نحن جميعاً على منحنيات مختلفة في خضم مثل هذه الحسابات.. ظللت أشعر أنني كنت أحاول ضبط نفسي وطريقتي في التحدث، لأكون مفهومة، وكنت أتلقى تعليقات مفادها أنني كنت جيدة، لكنها عملية احتيال، ولن تحصل أبداً على النتائج التي أريدها، لأن النظام ليس مصمماً لنا للبقاء على قيد الحياة، وبالتأكيد ليس مصمماً لنا لنحقق الازدهار.. نحن جميعاً نسير على منحنى مختلف لمعرفة أعماق ذلك، وكيف نريد أن نضع أنفسنا في مواجهة هذه الحقيقة".
وكشفت تفاحة: كان جدي شاعراً ومترجماً في الأردن، لكني لا أستطيع الوصول إلى الإنكليزية إلا عبر الولايات المتحدة، فالأمر لا يتعلق بخصائص اللغة الأم فحسب، بل إن هناك ثقافة كاملة وضعتها الإمبراطورية الأميركية، كما نحن، في مرمى نيرانها، وهذه هي الثقافة التي أنتمي إليها.. هذا المشهد العاطفي هو ما تريد قصائدي رسم خريطة له، بتجاربه الصغيرة التي يمكن أن تكون بسيطة مثل البكاء في فناء عندما تواجه شجرة مشمش تعيدك إلى طفولتك، والأشياء الأكبر بكثير هي اللحظات والأحداث الجيوسياسية.. كل ذلك جزء من خريطة تلك التجربة.. من خريطتي.
وتابعت: وجدتُ نفسي أعود لقراءة الشعر العربي، وهذا هو ما أتوق إليه أكثر.. أمضيتُ الكثير من الوقت في إعادة قراءة الشعراء الذين أحبهم.. درويش هو الدعامة الأساسية، كما تعرّفت على أمل دنقل بقصيدة "لا تصالح"، وألقيت الكثير من قصائد عبد الرحمن الأبنودي شفهياً، أما فدوى طوقان فهي شاعرة مهمة في حياتي، وأرى أنها لم تترجم بشكل كافٍ إلى الإنكليزية.. أثناء نشأتي، قرأتُ الكثير من الأعمال المترجمة، حتى عندما كنت أعيش في العالم العربي، حيث القراءة عبر مناطق جغرافية مختلفة أمر في غاية الأهمية.
"إحدى متع السنوات القليلة الماضية، هي التعرف على أعمال شعراء فلسطينيين أحياء، ومنهم من شكل اكتشافاً بالنسبة لي مثل مايا أبو الحيات، وأحلام بشارات، وشيخة حليوى، بالإضافة إلى زكريا محمد المُعاصر لدرويش، الذي وافته المنية الصيف الماضي.. قول ذلك يُسبّب لي الحرج، لكن هذه هي حقيقة حياة الشتات، حيث إن وعيي غير مكتمل بالحياة الأدبية".
وفي كتابه "أن تكون فلسطينياً"، وتضمّن شهادات لمبدعين فلسطينيين في المهجر، أشار البروفيسور الفلسطيني ياسر سليمان، إلى أن جذور لينا خلف تفاحة تعود إلى بلدة "العيزرية" قرب القدس، وإلى أنها تعلمت لأول مرة عن جمال وقوة اللغة من جدها الراحل، الشاعر حسني فريز.
وحسني فريز، الذي على ما يبدو هو والد أمها، شاعر وأديب ولد في مدينة السلط الأردنية لأب دمشقي الأصل وأم من مدينة نابلس، ويعتبر من الشعراء المؤسسين في بلاد الشام، حيث تبوأ مواقع عدّة في مجال التعليم والثقافة بالأردن، ونشر مجموعته الأولى "هياكل الحب" في العام 1938 عن مطبعة الاعتدال في دمشق.
وفي شهادتها في الكتاب الذي حرّره سليمان، وصدر بالإنكليزية عن جامعة "إدنبرة" البريطانية في العام 2003، أشارت تفاحة إلى أن تجربة أن تكون فلسطينياً أميركياً تجربة توصلت إليها تدريجياً في مرحلة البلوغ، وهي "تجربة يمكن مقارنتها بفنجان من القهوة التركية: مرّ، وغنيّ، وأحياناً داكن"، لكني "أحمل معي صور وطني، وحبّاً عميقاً وثابتاً لأرضي وشعبها، وهو حبّ يشكل جزءاً كبيراً من رؤيتي للعالم.. أجد متعة خاصة في الرابط الفوري الذي يجمع الفلسطينيين ببعضهم البعض، حيث نصبح أوطاناً لبعضنا البعض في المنفى، هذا هو الجانب الجميل".
أما الوجه الآخر للعملة، والحديث لتفاحة، فهو شكل من أشكال الشعور المتكرر بالذنب الناجي.. "كثيراً ما أتخيل طابوراً من الذين ينتظرون تأشيرات للدراسة في الولايات المتحدة في يوم صيفي من العام 1967.. كان والدي من المحظوظين الذين وصلوا إلى الولايات المتحدة بعد فترة وجيزة من الحرب، لكني أتساءل عن الآخرين في ذلك الطابور.. ماذا عن أولئك الذين لم يتمكنوا من أن يصبحوا مواطنين أميركيين مثله؟ هل كان الأشخاص في ذلك الطابور من بين لاجئي حرب 1948 أو حرب 1967؟ من منهم تزوج وأنجب أسراً، مثل والدي؟ ومنَ مِن بين أطفالهم نجا؟.. عندما كنت كبيرة بما يكفي لأتعلم ركوب الدراجة، كان أطفال فلسطينيون في مثل عمري يُذبحون في صبرا وشاتيلا، وعندما كنت أستعد للتخرج من المدرسة الثانوية، كان المراهقون الفلسطينيون في الضفة الغربية يتخرجون من سجون الاحتلال الإسرائيلي أثناء الانتفاضة الأولى، وكان كثير منهم قد تعرض لتعذيب وحشي واعتداءات، وعندما تزوجت واشترينا منزلنا الأول في الولايات المتحدة، كانت أراضي قرية والدي في العيزرية صودرت، وكانت المنازل الفلسطينية في القدس تُهدم لإفساح الطريق أمام المستوطنات الإسرائيلية، وفي العام 2000، وُهبنا أنا وزوجي نعمة ولادة طفلتنا الأولى، وفي ذات الشهر بدأت الانتفاضة الثانية، ومنذ ذلك الحين قُتل مئات الأطفال الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، واليوم، نحن آباء محظوظون لثلاث بنات.. إن تجربة الأمومة تُحول الحياة، وتجربتي أصبحت أكثر متأثرة بكل ذلك بسبب الأحداث المستمرة في وطني، لذا فإن قصائدي تتعامل مع هشاشة الحياة ووعدها، كما أعيشها".