تاريخ النشر: 26 تشرين الثاني 2024

"وارثة المفاتيح".. حكايات المأساة السورية!

 

كتبت بديعة زيدان:

 

"غاب أصحاب البيت وبقيت المفاتيح".. هذه العبارة تكفي لتكون عنواناً لخلاصة رواية "وارثة المفاتيح" للسورية سوسن جميل حسن، والصادرة حديثاً عن منشورات الربيع في العاصمة المصرية القاهرة.
وتسرد الروائية حكاية بلادها المنكوبة، عبر أجيال مختلفة من أسرة سورية، حيث الظلم والفساد والمحسوبية، الممتد كجسر غير متقطع منذ منتصف القرن الماضي وصولاً إلى فترة الحرب أو الثورة أو الزلزال، وما بعدها، بأسلوب أقرب إلى العشوائية في محاكاتها إلى عشوائية ما حدث ويحدث هناك على الأرض السورية منذ عقود، أو هناك في السردية، حيث القصص المتداخلة في خط زمني متعرج بين تأخير وتقديم، صيغت بلغة سردية غير معقدة، قادتنا، مع تقليب الصفحات كما الحكايات إلى مآلات أفراد هذه الأسرة التي غابت بموت أو هجرة أو جنون، فيما بقيت المفاتيح دون أصحابها، ودون بيوت أحياناً، وهو ما ينسحب على شعب بأكمله، كما حال شعوب البلاد المنكوبة في البلاد الناطقة بلغة الضاد، أو خارج جغرافيّاتها.
تهزّنا "وارثة المفاتيح" منذ مطلعها بانفجار في نهار صيفي هزّ جدران البيوت، وجعلنا ندخل في أتون إشارات إلى سوء القادم في الزمان والمكان، وعلى مستوى شخصيات العائلة: الشرطي عفيف، وزوجته رضيّة، وابنتيهما غيداء وسمرا، وابنهما الوحيد عابد وزوجته نادين، والحفيد غزوان ابنهما، والعمة الراحلة مزنة، فدوي الانفجار "كان هائلاً"، وعبِق الجو بسببه، "ليس برائحة البارود فحسب، بل برائحة الموت، ورائحة أجساد أنهكها الخوف والقلق"، وهي حكاية السوريّين، منذ أكثر من قرن، وكأن لسان حال الرواية وصاحبتها يقول: تعددت الأزمنة وأنظمة الحكم، والاستبداد واحد.
هناك في "تل الدخان"، كان "العمر الأسود" في زمن الاضطهاد التركي فيما عرف في بلاد الشام بـ"سفر برلك"، حيث يعود الشرطي إلى حكايات العمة عن أيام طفولتها في الحرب التي قضت على رجال القرية، وأبقت على الجوع والفقر ليرافق النساء والأطفال.
"كانت تحكي له كيف كانوا ينزلون حفاة سيراً على أقدامهم ليملؤوا تنكات من ماء البحر، يجففونه لأجل حفنة من الملح، تركت هذه الذكرى لديها حرصاً يختلط بالهلع أحياناً، فقد كان هدر الملح، أو إبقاء حنفية الماء مفتوحة، يصيبها بالتعاسة والمرارة، كانت لتلك الأشياء قيمة كبيرة لديها.. مات إخوتها الأصغر منها، وعاندت جدّتها الحياة لتربيها، هي وأخاها إبراهيم، بعدما ذهب أبوها مع العسكر الصملي، كما كانت تُسمي الجيش العثماني، إلى الحرب ولم يعد".
وفي زمن فوضى الحرب، وما بعد الانفجار الهائل، مفتتح السردية التي سيّرها "الراوي العليم"، تتوالى الحكايات ما بين ذهاب وإياب، فعايد ابن عفيف الشرطي منذ كان في عمر الثامنة عشرة، يعتقل ومجموعة من أصدقائه الطلاب بينما كانوا يتعاطون سجائر الحشيش، ليزجوا في السجن، حيث تفانين العذاب والإهانات للبريء كما المُدان، وللمُعاقب الذي يعود لأهله، أو الغائب أبداً.
كان عفيف رجل أمن مُتعاطف مع "المساكين"، ويسعى للإصلاح دوماً، كان يرى أن القانون يطبق على العاديّين أما "كبار المجرمين" فهم فوق القانون، وهناك من يدعمهم على الدوام، في إطار الوساطات والمحسوبيات، ولكنه كان ضعيفاً وجباناً وخائفاً خانعاً، دون أن يدرك السر الكامن وراء ذلك، على عكس ما كانت عليه زوجته رضيّة "العنيدة التي لا توجد قوة تردعها عن فعل ما في بالها، وكأن الشرطي أعطاها دوره، لم يحتفظ بشيء منه له إلا راتبه، كما كان يهجس بينه وبينه، أحياناً.
وكما الأم غدت الابنة الثائرة، التي تزوجت في العاصمة من استيفان أو مصطفى، الذي اعتقل لثلاث سنوات، فكانت تظهر بكل عنفوان على شاشات التلفاز، لتتحدث عن الحقوق، والوطن، والعيش بكرامة وعدالة، وعن الدولة الحديثة، رافضة وصفها ومن يحملون فكرها بالإرهابيّين.
كان عفيف يهتز دون أن ينفجر أو يثور، يكتفي أن يلعب دور "النادم على عدم الصراخ في وجه الظلم"، كان يتمنى لو شارك البسطاء الفقراء المظلومين في خروجهم على الاضطهاد، والقهر، والملاحقة، وضد الحياة المسلوبة المُنتهكة، ضد "الظلم الذي عايش ورأى منه الكثير في أثناء خدمته"، لكنه جَبُن.
تلاحق الشرطي عفيف حكايات العمّة مزنة عن التظاهرات التي كانت تخرج وتملأ الشوارع، قبل أن تخرج فرنسا من البلاد، وبعد أن خرجت، فحتى "الجنود الفرنسيون لم يطلقوا النار على المتظاهرين الذين كانوا يضربونهم بالحجارة، وبعدها لم يحاول رجال الشرطة التدخل ليفرقوهم"، وكأن "وارثة المفاتيح" هنا أرادت أن "الباشا" الذي تحكم عائلته البلاد، ولم تكن سمعته محمودة، وكان الناس يهابونه بل يكرهونه لكونه غاشماً، فعل بشعبه ما لم يفعله الاحتلال.
وهذا ما أكدته الساردة هنا كما السردية عبر الحكايات المتفرقة في أزمنتها، ما بين عفيف وعمته، وما بين رضية وحفيدها غزوان الذي بات يشكل كل حياتها بعد رحيل ابنها عابد، وتفديه الجدّة بأموالها ليفرج عنه خاطفوه في زمن "الباشا" و"ابن الباشا" الجدد، وما بين غيداء وزوجها، وسمرا التي عادت وحيدة إلى البيت، حيث يصطدم نظرها بالباب الوحيد مثلها، وبالمفاتيح المعلقة بجانب بعضها لأصحابها الغائبين، بانتظار صدفة ما قد تجمع مَن تبقى منهم ذات يوم، في مكان ما خارج بلاد الخوف، أو بين الجدران التي نُثِرت بينها حكايتهم، التي تجسد المأساة السورية المستمرة.