تاريخ النشر: 23 تشرين الثاني 2024

"لا غبار عليه".. أكثر من مسرحية في زنزانة!

كتب يوسف الشايب:

تحت عنوان "لا غبار عليه"، قدّم الفنانان محمد باشا وعلاء أبو غربية، مسرحية من إنتاج المسرح الوطني الفلسطيني (الحكواتي)، قبل ثلاثة أعوام، وتتغلغل في يوميّات أسيرين داخل واحدة من زنازين الاحتلال، كما في دواخلنا.
العمل المستوحى من مسرحية "الجزيرة" للكاتب الجنوب أفريقي أوثول فاجارد، أَعد نصّه بنسخته الفلسطينية وأخرجه الفنان كامل الباشا، وعُرض، مؤخراً، في مسرح وسينماتك القصبة بمدينة رام الله، في نسخة يمكن وصفها بالمُحدّثة، لكونها راعت تطورّات الأوضاع التي فاضت في مأساويتها عن نص فاجارد والنص السابق للباشا، لجهة الإبادة الجماعية المستمرة في فلسطين، وخاصة في قطاع غزة، والجرائم غير المسبوقة بحق الأسرى الفلسطينيين، حد القتل، والانتظار الذي بات أكثر إلحاحاً من إلحاحه الدائم لصفقة تبادل مرتقبة، تهبط وتصعد كأسهم البورصات، وأسعار العملات الورقية والرقمية، والأصفر اللامع المعروف بـ"الملاذ الآمن"، في بلاد لا ملاذ آمنا فيها.
والعمل الذي قدمه كامل الباشا باقتدار متوقع، يفتح مساحات شاسعة للتأمل في معاناتنا داخل السجون وخارجها، ولعل من أسباب ذلك، ليس فقط أنه مُبدع حقيقي في مجال عمله، لكن ربما لكونه كان أسيراً في زنازين الاحتلال، في وقت مضى، فـ"لا غبار عليه"، قدّم لنا، الأسير دون شعارات أو صراخ، فلم يؤسطره ولم يوقعه في خانة الضحية المستكينة، رغم أنه ضحية نظام احتلال عنصري، فكانت أنسنة الأسير الفلسطيني، الذي يدفع عمره ثمناً لحرية شعبه، العنوان الأبرز للمسرحية، بالاتكاء على تقنية "المسرح داخل المسرح"، ولكن وفق رؤيته الخاصة.
وكان ذلك باستعادة رائعة سوفوكليس، "أنتيغوني"، التي تعالج مسألة التمرد على نظام الحكم المستبد، ممثلاً بالملك "كريون"، الذي تمردت "أنتيغوني" على قراره منع دفن أخيها، المعارض له، رغم أنه قتل أخاهما الآخر المُقاتل في جيش الملك، مع إسقاطات على الواقع المُعاش، وخاصة ما يتعلق بالأسرى الفلسطينيين في زنازين الاحتلال وعائلاتهم.
وتذهب المسرحية أيضاً إلى إسقاطات عدّة لـ"أنتيغوني" سوفوكليس، فأحد الأسيرين يلفت نظر الآخر إلى أن هناك أكثر من "كريون" يوزّعون النياشين على أنفسهم، وعلى "عظام الرقبة"، دون استحقاق.
تتصاعد الأحداث مع استدعاء أحد الأسيرين دون الآخر للحديث معه أن صفقة تبادل للأسرى ستشمله، فيبدأ الاستعداد مع شيء من الريبة بأن يحدث ما يدفع الاحتلال للتراجع عن تنفيذ تلك الصفقة، أو أن لا صفقة، والأمر مجرد خدعة من السجّانين، في حين يحدث ما هو غير متوقع في خضم ذلك الفرح غير المكتمل، والذي يستحيل حزناً كبيراً حدّ البكاء.
ووظف الباشا بذكاء "أنتيغوني" سوفوكليس، مستعيداً أيضاً النسخة الفلسطينية منها، كما قدمها المسرح الوطني الفلسطيني سابقاً، متحدثاً على لسان واحد من الأسيرين حول الأداء المتميز لكل من الفنانين: حسام أبو عيشة، ومحمود عوض، وشادن سليم، فيها، وشكلت حالة بالنسبة للأسير المثقف عاشق المسرح، الذي من المقرر، أو كان من المقرر أن يخرج في صفقة للتبادل، خشي أن تمت أن يتم ترحيله إلى غزة، "اللي ما ضل فيها إشي".
ووظف الباشا أيضاً شخصيته "ياسر سلامة" وشخصية اللبناني "طوني حنا" في فيلم "القضية رقم 23" الذي حصل عن دوره في بطولته على جائزة أفضل ممثل في مهرجان برلين السينمائي قبل سنوات.
ويعود الفيلم ضمنياً ليُعرض على لسانَي الممثليَن، في المكالمة الهاتفية المفترضة بينهما وبين "حنا"، مبدياً تعاطف الفلسطينيين مع ما آلت إليه الأوضاع في لبنان، رغم الواقع الصعب بين شرائح من الشعبين في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وتداعياته، وهو ما كان قد تطرق إليه الفيلم اللبناني الذي نافس على القائمة القصيرة للأوسكار، وكأن في عرضه هذه الأيام محاكاة لما يحدث من إبادة إسرائيلية تطال البلدين.
و"لا غبار عليه" أغنية فلسطينية من كلمات الشاعر الراحل حسين البرغوثي، وألحان وغناء الفنان الفلسطيني جميل السايح، وظهرت في فيلم "نداء الجذور" لناظم جبارين في العام 1985، ثم أصدرها السايح في أسطوانته "رصيف المدينة".
ورغم النهاية المأساوية للعمل، انحازت للواقعية بشكل ما، برز في العمل ذلك التناغم الهائل بين الممثليّن الباشا وأبو غربية، وكذلك امتلاك المخرج لأدواته رغم تقشف السينوغرافيا لا فقرها، وهو ما يتناسب وطبيعة النسخة الفلسطينية من المسرحية الجنوب أفريقية.
ومع خروج المشاهدين من قاعة المسرح، وعدم خروج المسرحية من دواخل العديد منهم، بقيت كلمات حسين البرغوثي التي ترددت مراراً في العمل، تارة مع دخول الجمهور إلى القاعة، كما غناها الممثل علاء أبو غربية خلال العمل نفسه، فيما عُرضت مسجلة بعد نهايته، ترن في الآذان والأذهان، بأن: "رصيف المدينة في الليلِ لا غبار عليه.. عندما لا نخاف منه ولا ننام عليه.. عندما نضحكُ من معدتنا لأجلِ فنجان شاي تحت قوس قزح، يكون الفرح لا غبار عليه.. عندما ينبع الجمال في عيوننا من الربيع في داخلنا يكون الرمش لا غبار عليه".