تاريخ النشر: 06 تشرين الأول 2015

تحطيم التماثيل في فضاءات العالم العربيّ العامة 1 من 3


تنشر الأيام على ثلاث حلقات دراسة الشاعر والأكاديمي العراقي د.شاكر لعيبي الهامة حول ظاهرة تحطيم التماثيل في العالم العربي، الدراسة الكاملة ستظهر في العدد العاشر من فصلية  «أوراق فلسطينية» التي تصدر عن مؤسسة ياسر عرفات.
شاكر لعيبي

بين حقبة تاريخية وأخرى يشهد العالم العربيّ تحطيماً لبعض الآثار الفنية، خاصة للمنحوتات والجداريات المعروضة في أماكن عامة، أو الاستهانة بها وعدم ترميمها.
لكننا شهدنا، مع صعود الحركات الدينية، وشيوع السلفيات بوجوهها المتعددة موجة تحطيم غير مسبوقة في العصر العربيّ الحديث، للأعمال ثلاثية الأبعاد المنصوبة في الأماكن العامة والفضاءات العمومية ذات القيمة الرمزية والسياسية. فما المنطلقات التي تُحرِّك محطّميها، سوى المنطلق الدينيّ المرتاب بفن النحت أكثر من ارتيابه بفن التصوير؟.
أودّ أن أسوق خمس مقدّمات قد تسمح لنا، وفق ما يبدو لي، أن نفهم الخلفيات الثقافية، وليس الدينية المحض بالضرورة، التي لعلها ساهمت في هذا التحطيم المستجدّ المؤسف.

أولاً: السلفية ومفهومها
للفن و(تاريخ الفن)
تغيب مادة تاريخ الفن عن غالبية معاهد ومدارس وثانويات العالم العربيّ. وتحضر فقط في المعاهد والأكاديميات المتخصصة وإنْ بشكلٍ منقوص. من أين إذنْ ينبثق تقدير ومعرفة وذوق الجمهور العريض بأهمية آثاره الفنية التاريخية، بل بمنجزات معاصريه؟. دعونا من مزاعم الوسط الثقافيّ العريض بهذا الشأن، فهي في الغالب محض أفكار قيمة لا سوق لها كما تدلّ الشواهد و(سوق الفن المحليّ مثلاً).
تحطيم السلفيين والإرهابيين للتماثيل استُقبل بتنديد وطنيّ، ليس لجهة أهميتها الجمالية الفائقة، ولكن لكونها وثيقة تاريخية في المقام الأول وموضع اعتزاز قوميّ، وهذا الأمر على أهميته يكشف عن سيادة الوعي بالفن بصفته (وثيقة) أكثر من كونه (إبداعاً) جمالياً. فئات عريضة في منطقة الجزيرة العربية لم تهتم بهذا الجانب ولا بذاك، لأنها لا تعرف ببساطة تاريخ الفن, لأنها لُقّنت دروساً زائفة عن (بُهرج) الفن، ومفاهيم خاطئةً عن فنون الإسلام.
إن مقالة عبد الرحمن الراشد (فليسرقوا آثارنا لأننا لا نستحقها) في جريدة (الشرق الأوسط)، بتاريخ 9 مارس 2015، التي كتبها بمناسبة تحطيم داعش لبعض آثار الموصل التاريخية، دالة لجهة اعترافها بعدم اهتمام أوساط (الدين السياسيّ) الذي يمثله الكاتب، في مشرق العالم العربي بالمشكلة الفنية:
«ولحسن الحظ، حظنا نحن، أن علماء الغرب وتجاره قاموا بنقل ونهب آثار من أرض النيل، وبلاد الرافدين، وقلاع اليمن، وغيرها، وهي اليوم محفوظة في متاحف فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وتركيا وغيرها».
كان تنديد بعض مثقفي الجزيرة العربية بذاك التحطيم مناسبة لان يَشنّ أنصار السلفيات هجوماً كاسحاً عليهم، كالهجوم على الكاتب والأستاذ الجامعي السعوديّ معجب الزهراني في معرض الرياض الدولي للكتاب. بينما لم تكن تصريحات الكويتي إبراهيم الكندري عن (إزالة الأصنام والأوثان ضرورة شرعية، وهذا ينسحب على الآثار كأبي الهول والأهرامات)، تبرهن فقط على أن وجهة النظر هذه إنما هي صناعة رجعية، سلفية إرهابية (رغم تنديد الراشد ولوعة الزهراني)، إنما أيضاً على أن الغالبية المطلقة من (الأمة) في تلك البقع من العالم لم تطلّع وتتشبع وتتذوق دروساً كافية في تاريخ الفن، إذا لم تكن تحتقر هذه المادة وتفهمها فقط في إطار الزخارف والخط العربيّ التقليديّ، خلاف الثقافات الأخرى الذي تعلّمه لأطفالها منذ الصغر.
هذا كله من جهة، ومن جهة أخرى، يقف في مواجهة هذه السلفية المتغوّلة التي حازت في السنوات العشر الأخيرة قاعدة واسعة، مثقفون منقطعو الصلة بالواقع تقريباً، من دون وظيفة روحية أو جمالية أو إيطيقية أو حتى سياسية. طليعة مشكوك بطليعيّتها.

ثانياً: مفهوم «الطليعة»
المتعالية على «العامة»
خلال أحداث صعود التكفيريات في العالم العربي وتحطيمها للأوابد والشواهد التاريخية والتماثيل، وتجمْهُر الحشود لمقاتلتها، وفي خضم التدخلات الإقليمية في شؤون المحلية للبلدان العربية، طلعت علينا أصوات مثقفين منضوين تحت لواءٍ مُهَلْهَل (للطليعة) الفكرية والجمالية والجامعية، وهي لا تفعل في الجوهر سوى نقد (الرعاع) في عامة الشعب وتذكّر بهمجيتها عبر التاريخ القريب والبعيد، بل بسذاجتها وتخلّفها، واضعة الضحية في مصاف الجلاد، وخالطة الأخضر باليابس، ساحبة هفوات ومزالق وفساد الساسة والحاكمين والإدارات البيروقراطية على الصورة بكاملها. وفي الحقيقة، ثمة في الكثير من تلك المواقف تعالٍ خالص، وليس نقداً جذرياً للوعي الاجتماعيّ الذي لا يَنْكر عاقلٌ ضرورته المطلقة. ثمة فيه نرجسية فائقة للعادة وتَخَلٍ موضوعيّ عن الشروط التي تشتغل بها ثقافاتنا المحلية، بل أن  بعض المثقفين أعلن على استيحاء ومن أمكنة جغرافيّة نائية تخليه عن ماضيه كله. كان يمكن للمرء أن يلاحظ منذ وقت بعيد أن ثلة من المثقفين العرب المغتربين في أوربا وقفوا غالباً في موقف الازدراء من (الريف) و(الصحراء) كليهما. ولقد كانوا يضعون عملهم الشعريّ والفكريّ والتشكيليّ في مقام الأفضلية على الحسّاسية السائدة والتفوّق عليها، من دون رغبة بتجسير الجسور، وأحياناً بعدم الرغبة العميقة لفهم الشروط الموضوعية التي يشتغل فيها متلقوهم ومُشاهدوهم، فخَلَطوا وخَلّطوا بين رفعة النص الأدبيّ ووحدة فضائه وشروطه الجمالية التي لا يمكن التنازُل عنها، والشروط البشرية العامة التي تحوك استجابات المتلقين.
لا يبدو أمر الفن التشكيليّ بعيداً عن ذلك، بل هو أمَرّ وأدهى في ثقافة حديثة التعرُّف على الفن الحديث وتاريخ النحت المعاصر، حيث ملمح من ملامح (صورة الفنان) الأكيدة في ثقافتنا العربية هي غرائبيته المزعومة في السلوك واللباس وتعاليه الصارخ، غامض الجذور، بل في أحيان عديدة عبقريته الافتراضية، ليس فقط على رفاقه الفنانين، إنما على ثقافته كلها.
هل أن «تعالي الطليعة» التشكيلية سبب خفيّ فاعل قاد إلى ظاهرة تحطيم الأعمال الفنية على يد جمهور لم يكن كله من السلفيين ولا التكفيريين؟. أم أن هناك إفراطاً وتجنّياً في هذا التحليل؟ أليس التلقين نتيجة غير مباشرة لفكرٍ تاريخيّ ظلّ يُنْكر ويُجرّم الظاهرة الفنية، خاصة ثلاثية الأبعاد، منذ القرن السابع للميلاد، مباشرة طيلة قرون، ثم مُداوَرَة عند دخول الفن الحديث إلى العالم العربيّ، منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر؟.
ثالثاً: موقفان من التمثيل ثلاثيّ الأبعاد: محمد عبده ومحمد بن عبد الوهاب
في العالم العربيّ الحديث ثمة موقفان من الفن التشكيليّ، وفن النحت فيما يتعلق بموضوعنا. موقف الإسلام التنويري الذي يمثله الإمام محمد عبده (1849 - 1905م). وموقف الإسلام السلفيّ الذي يمثله الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1703- 1791م).
فمّما كتبه محمد عبده عند زيارته لمتاحف صقلية وأوروبا صيف 1902 نصّ ما زال مجهولاً حتى من لدن المتخصصين، ناهيك عن جمهور القرّاء، ويجيء في بعضه:
«قال الإمام: لهؤلاء القوم حرص غريب على حفظ الصور المرسومة على الورق والنسيج، ويوجد في دار الآثار عند الأمم الكبرى ما لا يوجد عند الأمم الصغرى، كالصقليين مثلا، يحققون تاريخ رسمها واليد التي رسمتها، ولهم تنافس في اقتناء ذلك غريب، حتى أن القطعة الواحدة من رسم روائيل [أظنه يقصد روفائل] مثلا ربما تساوى مئات من الآلاف في بعض المتاحف، ولا يهمك معرفة القيمة بالتحقيق، وإنما المهمّ هو التنافس في اقتناء الأمم لهذه النقوش، وعد ما أتقن منها من أفضل ما ترك المتقدم للمتأخر؛ وكذلك الحال في التماثيل، وكلما قدم المتروك من ذلك كان أعلى قيمة، وكان القوم عليه أشد حرصاً، هل تدري لماذا؟. [...] السبب في محافظة القوم على هذه المصنوعات من الرسوم والتماثيل، فإن الرسم ضرب من الشعر الذي يرى ولا يسمع، والشعر ضرب من الرسم الذي يسمع ولا يرى، إن هذه الرسوم والتماثيل قد حفظت من أحوال الأشخاص في الشؤون المختلفة، ومن أحوال الجماعات في المواقع المتنوعة، ما تستحق به أن تسمى ديوان الهيئات والأحوال البشرية....».
ثم يضيف: «الذي يغلب على ظني أنه سيقول لك إن الحديث جاء في أيام الوثنية وكأن الصور تتخذ في ذلك العهد لسببين: الأول: اللهو، والثاني: التبرك بمثال من ترسم صورته من الصالحين، والأول مما يبغضه الدين، والثاني مما جاء الإسلام لمحوه، والمصور في الحالين شاغل عن الله أو ممهد للإشراك به، فإذا زال هذان العارضان وقصدت الفائدة كان تصوير الأشخاص بمنزلة تصوير النبات والشجر في المصنوعات، وقد صنع ذلك في حواشي المصاحف وأوائل السور ولم يمنعه احد من العلماء. مع أن الفائدة في نقش المصاحف موضع النزاع، وأما فائدة الصور فيها لا نزاع فيه على الوجه الذي ذكر».
ظلّ هذا الموقف التنويريّ المتطوّر قائماً منذ عصر النهضة العربية، حتى سيادة السلفيات المتشدّدة في العشرين سنة الأخيرة. وكانت السلفيات تستمدّ مواقفها في الحقيقة من آراء الشيخ محمد بن عبد الوهاب، من بين آخرين، ومن سطوة المال الذي روّج لها دون شكّ مؤخراً. في كتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب (كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد) «باب ما جاء في المصوّرين» لا يقع فقط تحريم التصوير دون أي استثناء أو تظليل، والأمر «بطمسها إذا وجدت»، إنما مقارنة القبور نفسها في (باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله) بالأوثان ولعن زَوَّارَات القبور ومن أسْرَجها.
وبعيداً عن فتاواه لكن انطلاقاً منها وبغياب علم الجماليات، وقعت تسويتها بالأرض دون رحمة. تلميذه الشيخ العثيمين يذهب إلى تحريم التصوير الفوتوغرافي نفسه فيقول في مجموع فتاويه: «من نسب إلينا أن المحرّم من الصور هو المجسّم وأن غير ذلكً غير محرم فقد كذب علينا، ونحن نرى أنه لا يجوز لبس ما فيه صورة سواء كان من لباس الصغار أو من لباس الكبار، وانه لا يجوز اقتناء الصور للذكرى أو غيرها إلا ما دعت الضرورة أو الحاجة إليه مثل التابعية والرخصة».
كان من نتائج فتوى الأمام عبده ازدهار الفن ومدارسه في مصر ثم العالم العربيّ برمته، ومن نتائج فتوى الإمام عبد الوهاب اختفاء الآثار والأبنية التاريخية وتسوية الاضرحة الرمزية والروحية منذ القرن التاسع عشر، وفيما بعد، وانطلاقاً من فقهه هو وليس آخر سواه، تحطيم تمثال بوذا في أفغانستان في الثاني من آذار- مارس 2001، ومن فتاواه نفسها أيضا حطم داعش بين العامين  2014- 2015 بعض آثار العراق الثمينة.

رابعاً: صنمٌ أم تمثالٌ؟
علينا أن لا نخفف من وطأة (الدفين) و(اللا شعوريّ) في الوعي الاجتماعيّ العام بشأن مسألة فن النحت في المجتمعات العربية الحديثة. سأسوق هذا المثال الدالّ: في إحدى محاضراتي لطلبة الماجستير عام 2014 في معهد العالي للفنون والحرف في قابس، وبصدد معالجة تطور الفن النحتيّ في العالم العربيّ، استخدمت إحدى الطالبات العلمانيات، لاواعيةً، مفردة (الأصنام) بدلاً من (التماثيل)، ما استوجب مقاطعتها ووضع الأمور في نصابها.
وإذا ما صدّقنا أن زلات اللسان أي اللابسوس (Lapsus) هي خطأ خطابيّ أو كتابيّ أو في الذاكرة يتأسس على تعبير الشخص عن شيء آخر غير ما يريد التعبير عنه، أو هو من وجهة نظر لسانية إحلال شكل محلّ شكل آخر، وإذا ما رأى فرويد في اللابسوس عَرَضاً مُهمّاً تنبثق عبره رغبات لاواعية، وأن دلالته تقع في أن اللاوعي قد تجلى عبر إزالة حواجز الرقابة الداخلية الصارمة، فإن إحلال صنم محلّ تمثال ليس سوى رغبة عميقة باعتبار التعبير الفنيّ ثلاثيّ الأبعاد نمطاً وثنياً للعبادة وليس شكلاً فنياً ذا وظائف أخرى.
في المجتمعات التي يظلّ الطقس الدينيّ فيها فاعلاُ بقوة، مشتغلاً بشكل يوميّ في الملبس والمأكل والأعراس والختان والأعياد والذبائح وقيم العائلة والقبيلة ولغة الجسد والتعابير اليومية البسيطة، وفي كل شيء حميميّ آخر، فليست مستغربة تلك الإزاحة اللاواعية من الحجم الثقيل بين صنم وتمثال، بل ليس مفرطا الزعم أن اللاوعي العميق يَفْهم التمثال صنماً وإنْ لم يعترف بذلك واعياً.
بعبارة أخرى، يمكن الاستنتاج أن المجتمعات ذات الخلفيات الدينية التي ظلت تزعم منذ استقلال بلدان العالم العربيّ في الخمسينيات أنها أسّست لوعي آخر مغاير، أو على الأقل، مُجاوِر للوعي الدينيّ، تتحايل على نفسها من حيث تدري أو لا تدري، وأنها في الحقيقة محكومة بوعي ميتافيزيقيّ نعرف كلنا أشكاله الصريحة، ولعلنا هنا أمام احد أشكاله التي ليست في الحسبان.

خامساً: المستوى الاصطلاحي، التماثيل الراهنة هل هي أصنام أم أوثان أم أنصاب؟.
ثم لدينا مشكلة التدقيق بالمفردات والمصطلحات، وخاصة بين المفردات صنم ووثن ونصب، والخلط المدوي بينها. طالما استمعنا لشيوخٍ ورجال دين يُحذّرون من الخوض في المسائل الفقهية والدينية إلا بعد التضلُّع بعلوم القرآن والقراءات والرجالات والأسانيد وأسباب النزول والمشكل والناسخ والمنسوخ.. الخ، حتى يبدو وكأنهم يضعون العقل البشريّ في موضع الشبهة إذا لم يستوعب ما استوعبته وخاضت به أجيال وقرون من البحث والجدل والتنقيب، ولكأنهم يعتبرون شخوصهم وحدها من استوعب العصور كلها والعلوم جُلّها، فأجازوا لبعضهم البعض الإجازات، ومنهم شيوخ أجلّة فاضلون، لا يُنكر مُنْكِرٌ فضلهم.
لكن، عندما يفتون الفتاوى بشأن التماثيل المعاصرة، ألا يتوجب عليهم هم أنفسهم التعمّق بتاريخ الفن والتضلّع  بعلم الآثار، لا بل في المعجم الأساسيّ «لسان العرب» الذي يُفرّق بين (صنم) و(وثن) و(نصب)، وهم يضعونها كلها في مصاف واحد وتحت إطار فتوى واحدة؟. 
سأحاول هنا تقديم تفريق بينها، حسبما ورد في المعاجم والاستشهادات الأدبية فيها.
أما الوَثْن في لسان العرب، فمن الواثن وهو المقيم الراكد الثابت الدائم، وقد وثَن ووَثَن بالمكان. يذكر ابن الأَثير: «الفرق بين الوَثَن والصنم أَن الوثن كل ما له جثة [بمعنى كتلة volume] معمولة من جواهر الأَرض أَو من الخشب والحجارة كصورة الآدمي تُعمَل وتُنْصَب فتُعْبَد [يقصد تُوْحِي بصورة الآدمي من دون أن تكون تشخيصاً واقعياً له]، والصنم هو الصورة image بلا جثة [يقصد صورة تشخيصية ثنائية الأبعاد ولعله نحت بارز وليس كتلة ثلاثية الأبعاد دائما: نحت بارز، والصنم بمعنى الصورة ضاربٌ في استخدامات المنطقة الساميّة قبل الإسلام]؛ ومنهم من لم يفرّق بينهما وأَطلقهما على المعنيين». قال: «وقد يُطلق الوثن على غير الصورة»: بعبارة أخرى ليس الوثن نحتاً تشخيصياً، إنما معبود دون صورة بالضرورة. جميع معاجم اللغات السامية تؤكد أن مفردة الصنم slm تشمل فكرتيْ المنحوتة التشخيصية والصورة كليهما، حسب السياق.  ثم يذكر أن: «أَصل الأَوثان عند العرب كل تمْثال [يقصد هنا بكلمة تمثال مفهوم التمثيل représentation وهو استخدام لا تنقصه الدقة] من خشب أَو حجارة أَو ذهب أَو فضة أَو نحاس أَو نحوها، وكانت العرب تنصبها وتعبدها. وكانت النصارى نصبت الصليب وهو كالتمثال [أي التمثيل، خاصةً وأن الصليب قُدّم غالباً وفيه نحت للمسيح المصلوب] تُعَظِّمُه وتعبده، ولذلك سمّاه الأَعشى وثناً [يقصد معبوداً  idole] وقال ( تَطُوفُ العُفاةُ بأَبْوابِه، كطَوْفِ النَّصارى ببَيْتِ الوَثَنْ). أَراد بالوثن الصليب. وقال عَدِيّ بن حاتم قدمتُ على النبي، وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي: أَلْقِ هذا الوثن عنك [يقصد المعبود idole] أَراد به الصليب، كما سماه الأَعشى وثناً، وهذا استخدام مجازيّ.
في اللسان يقال إن الصنم معرَّب شَمَنْ، وهو الوثن: «وهو يُنْحَت من خشب ويُصاغ من فضة ونحاس، وهو ما كان له جسم أَو صورة، فإن لم يكن له جسم أَو صورة فهو وثن». هنا استعادة لتفريقه بين التمثال التشخيصيّ والمعبود دون صورة. وأن «الصَّنَمة والنَّصَمة الصورةُ التي تُعْبَد». وفي القرآن «واجْنُبْني وبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصنام». وفي تأويلها: «ما اتخذوه من آلهة فما كان غير صورةٍ فهو وثن، فإذا كان له صورة فهو صنم، ومن العرب من جعل الوثن المنصوبَ صنماً»، والصَّنَمةُ الداهيةُ، أَصلها (صَلَمة). وروي عن الحسن: «لم يكن حيٌّ من أَحياء العرب إلا ولها صنم يعبدونها يسمونها أُنثى بني فلان».
تؤكد المعطيات، رغم اضطرابها، إلى أن أمر الصنم، وليس الوثن، يتعلق غالباً بتمثال تشخيصيّ، بالمعني المعروف للكلمة.
إن إشارات «لسان العرب» بشأن الصنم، أي التمثال، تحيل إلى مرجعيات ساميّة قديمة. أولاً قوله إن كلمة «صنم» قد تكون تعريباً لـ «شَمَنْ»، وثانياً أن أصل الصنم والصنمة هو «صَلَمة» باللام.
توجد، من جهة، في استعادة شَمَن علاقة مع أرباب شمال الجزيرة العربية وجنوبها الذين نجد في أسمائهم المقطع الساميّ (شما) أي (سماء): رب السماء أو القاطن في السماء، مثل الرب التدمريّ بعل شَمِن Baalshamin. تَسمّى اللحيانون أيضاً بـ»عبد شَمِن»، ثم اختصر الاسم (المفصّل، جواد علي)، فصار «شمن» «شمين».
وتُلفظ، من جهة أخرى، مفردة الصنم بالأكادية صلم، صلامو. ويبدو أن السومرية قد استعارته من الأكادية، وليس العكس، بصيغة (آلان alan وآلام alam ) فهو مقطع من الكلمة الأكادية صا-الـ -مو-أُم (şa-al-mu-um). وهو ذاته صلم slm في البابلية والآشورية والأوغاريتية واليمنية الجنوبية والتدمرية ولغة البتراء والحضر (صلمت) والآرامية  (صلم وصلمه)، وغير ذلك من اللغات السامية، ويعني تمثال أو صورة، حسب السياق.
بقي تذكار هذه المفردات السامية في الذاكرة العربية، المحفوظة في لسان العرب، من دون قدرة على تقديم تفسير فيلولوجيّ لها. وهذا مدهش إذا أخذنا سياق التطوّر المعرفيّ بنظر الاعتبار.

النصب
أما النصب فإن جميع القرائن الفيلولوجية تشير إلى أنه ما (انتصب) تمثالاً أي صنما أو وثناً أي ما هو ليس بتمثال. وأصل المفردة في اللسان النَّصْبُ وَضْعُ الشيءِ ورَفْعُه، نَصَبه يَنْصِـبُه نَصْباً، ونَصَّبَه فانْتَصَبَ؛ قال ( فباتَ مُنْتَصْـباً وما تَكَرْدَسا) أَراد مُنْتَصِـباً، فلما رأَى نَصِـباً من مُنْتَصِبٍ، كفَخِذٍ، خففه تخفيف فَخِذٍ، فقال مُنْتَصْباً. وتَنَصَّبَ كانْتَصَبَ. والنَّصِـيبةُ والنُّصُبُ: كلُّ ما نُصِبَ، فجُعِلَ عَلَماً. ثم يضيف اللسان نفسه النَّصْبُ والنُّصُبُ: كلُّ ما عُبِدَ من دون اللّه تعالى، والجمع أَنْصابٌ. وقال الزجاج: النُّصُبُ جمع، واحدها نِصابٌ. قال: وجائز أَن يكون واحداً، وجمعه أَنْصاب. الجوهري: النَّصْبُ ما نُصِبَ فعُبِدَ من دون اللّه تعالى، وكذلك النُّصْب، بالضم، وقد يُحَرّكُ مثل عُسْر؛ قال الأَعشى يمدح سيدنا رسول اللّه (وذا النُّصُبَ الـمَنْصُوبَ لا تَنْسُكَنَّهُ  - لعافيةٍ، واللّهَ رَبَّكَ فاعْبُدا). قال الفراء: كأَنَّ النُّصُبَ الآلهةُ التي كانت تُعْبَدُ من أَحجار. وجمعه الأَنْصابُ؛ قال ذو الرمة (طَوَتْها بنا الصُّهْبُ الـمَهاري، فأَصْبَحَتْ - تَناصِـيبَ، أَمثالَ الرِّماحِ بها، غُبْرا) والتَّناصِـيبُ هي الأَعْلام، وهي الأَناصِـيبُ، حجارةٌ تُنْصَبُ على رؤوس القُبورِ، يُسْتَدَلُّ بها؛ وقول الشاعر (وَجَبَتْ له أُذُنٌ، يُراقِبُ سَمْعَها * بَصَرٌ، كناصِـبةِ الشُّجاعِ الـمُرْصَدِ) يريد كعينه التي يَنْصِـبُها للنظر. ابن سيده: والأَنْصابُ حجارة كانت حول الكعبة، تُنْصَبُ فيُهَلُّ عليها، ويُذْبَحُ لغير اللّه تعالى. وأَنْصابُ الحرم: حُدوده.
وكلمة نصب قديمة في اللغات السامية، ونجدها مثلاً (نعود إلى بحث أندراو سميث جوار تعليقاتنا). ففي مذبح مكرّس «لمعبود الربيع»، نقرأ حرفياً: مَصْب بذي عين (ms. b’ dy 'yn’) الآن في متحف تدمر، والمَصْب هو النصب العربية بانسلال الميم نوناً، وكلاهما يشيران تحديداً إلى «كاهن النصب». حرفياً: أبكلا مَصْب (’pkl’ ms. b’)،  والأبكل هو الكاهن كما يجيء في لسان العرب. نجد أيضاً جاد أو مَصْب = نصب (ms. b’) الربيع مع الرب يرحي بعل على نقش  من دورا أوربوس في سوريا يقول: «يرحي بعل الرب الطيب، حجر الربيع المقدّس، أقامه بني متي  MYT BNY» الرماة. (الفقرة على ص133 من أطروحته). لقد فُسّرت النصب بأنها تعني الوثن Idole هنا أيضاً.

تحطيم التماثيل في الفن العربيّ الحديث
ظلت الصفة (عصريّ) مُستخدَمة في الكتابات الأدبية والإعلانات التجارية والصحافة العربية منذ بواكير النهضة العربية في القرن التاسع عشر، في مشرق العالم العربيّ ومغربه. وما زالت مستخدمة أحياناً في البلاد التونسية. وهي رديف لمفردتنا الراهنة (حديث moderne). لم يكن الدافع الداعي لاستخدام (العصريّ) و(العصرية) يومها سوى التشديد على فكرة مسايرة تطورات (العصر).
نستخدمها في السطور التالية من أجل مدى رؤية اقترابنا أو ابتعادنا عن هذا (العصر)، في إطار مُفارِقة تغييبنا عنه عبر مساعي استبعاد فن النحت اليوم عن فضاءاتنا العامة.

تحطيم التماثيل «العصرية» في العراق
قبل أن ينتصب تمثال محمود مختار (1891 - 1934)، أحد الفنانين الرواد في فن النحت وصاحب تمثال نهضة مصر الشهير في القاهرة، عام 1928، لم تكن بغداد تعرف النحت الحديث بَعْدُ. بل انتصب عام 1923 في إحدى ساحات الكرخ تمثالٌ ذو طابع رمزيّ استعماريّ يمثل الجنرال الإنكليزي مود Frederick Stanley Maude (1864 - 1917) غازي العاصمة بغداد، الذي وقع تحطيمه، بصفته رمزا للعبودية، عام 1958 مع تمثال آخر هو تمثال فيصل الأول ( 1933 في حيّ الصالحية)، ملك البلاد حينها. وإذا ما وقع الحماس العام لتمثال محمود مختار من زاوية وطنية قبل الزاوية الجمالية، فإن تحطيم التمثالين في العراق قد وقع أيضاً من باب حماسي وطني مندفع دون أي اعتبار آخر، جمالي أو معرفي أو تاريخي. فالمرويات عن تحطيم التمثالين العراقيين تروي أن الجماهير الهائجة قد عَبَرَتْ من «جانب الكرخ، جسر الأحرار الذي كان يسمى في حينها «جسر مود»، فواجهها تمثال الملك فيصل الأول وبلحظات كان الشباب قد أحاطوا بالتمثال، فأسقطوه، ربطوا رأس التمثال بالحبال وأطاحوا به أرضاً. بعد ذلك تم الانتقال إلى باب السفارة البريطانية وهي قريبة جداً حيث كان ينتصب، أمام البوابة، تمثال الجنرال مود قائد القوات البريطانية التي دخلت بغداد عام 1915 وما فعله [الشباب] مع التمثال كان نفس ما فعلوه مع تمثال فيصل الأول، وكان مصيره نفس مصير صاحبه مع فارق بسيط هو أن تمثال فيصل لم يبق منه شيء فوق القاعدة، أما تمثال الجنرال فقد سقط من حد ركب قوائم الحصان» (ذكريات تموزية، ناصر حسين). هناك شهادة أخرى لفائز الحيدر: «المئات من الجماهير تحاول إسقاط [نصب مود]، مستخدمة المطارق والفؤوس دون جدوى، كانت البداية تحطيم وإزالة اللوحة البرونزية المثبتة على مقدمة قاعدة النصب الكونكريتية، وبقي التمثال عصيا على السقوط رغم كل المحاولات، وضعت عدة سلالم خشبية على الجانبين وتسلق العديد من المواطنين وربطوا حبالا غليظة وسلاسل حول أماكن ضعف التمثال وحاولت الجماهير إسقاط التمثال دون جدوى، بعد عدة محاولات فاشلة توجهت سيارتا حمل ثقيلة وتم ربط السلاسل بهما وتم سحب التمثال باتجاهات مختلفة ولعدة مرات لغاية إتمام المهمة بنجاح وسط هلاهل [زغاريد] وهتافات الجماهير، وتكسَّرت بعض أطراف التمثال وأكملت الجماهير بما تملك من أدوات تكسير ما يمكن تكسيره».