يامن نوباني
قبل 21 عاما تشاجر أبي وجدّي على تسعة أمتار بقيتْ فارِغة خلف بيتنا، جدي يقول: تصلُح لمخزن ونضع فيه الأدوات الزّراعية، عُود الحراث، مناجل الحصاد، سُلّم الزيتون وشراشفه، وحطب الشتاء، يرد عليه أبي: نبني غرفة إضافية للبيت، غدا يُصبحُ أطفالي شبابا.
بين مخزن جدي الذي لم تقُم له قائمة، وغُرفة أبي الإضافية، والتي لم تُضف، قررت جدتي أن نزرع خوخ ومشمش، لكنّ أم إياد ماتت صُدفة! لم تكُن تُعاني سوى من وجعٍ في مفاصلِها، فكان موتها مَفصلاً غيّر حياتي فيما بعد.
ففي الصّباح ذهبت جدتي إلى بيت أبو إياد، المشهود له بالخِبرة الكبيرة في الزّراعة والتركيب والتنقيب، ومُداواة الشجر والنّبات، وعدَها بتأمين بُذور المشمش والخوخ، والمجيء لبيتنا مساءً لِزراعتها، لكنّ أم إياد ماتت عصراً! قبل الموعد بساعتين.
كان حضور أبي إياد مَصِيرياً، لِفك النّزاع اللطيف والطويل، والخَلاص مِن: ماذا نزرع؟ شهران وجدي وأبي يشربان القهوة صباح مساء واقفين فوق التّسعة أمتار يحرثانها بأرجلهما، وكل واحدٍ منهما يُخطط في واد.
قالت جدتي: نزرعها لوزا.
كُنا جميعا نُحبها، ونرى فيها الذكاء والقوة والأمل، ولا نتصورنا دونها! كانت تُميزني، وتراني أحلى أحفادها، وتقول: أنتِ ابني. لم يكُن مُمكنا أن تقول هي شيء، فنقول شيئا آخر.
زرعناها لوزا، كبر اللوز، كبرنا معه، رأينا به الأمل، نرمي بعضنا بحباته، نتسلّقه، نأكله أخضر، نُقدمه للضيف مع ملح، وحين ييبس ندُقهُ بحجر ونقضُمه.. ونتربّص لأطفال بعمرنا يقدُمون مع الغروب لسرقته.
بعد 21 عاما على حُب جدتي، وزراعة اللوز، التقيتُ بدلال من القدس، صِرنا أصدقاء، نلتقِي بحسب ظروف حاجز قلنديا، والوضع الأمني في الضّفة والقدس، أُطعمُها في نهايات شباط وكامل آذار وبدايات نيسان، لوزاً أخضر، مُمازِحا أصابعها: «أطعميكِ لوز وتحبيني».
اتفقنا أن نلتقي في مقهانا الخاص بمدينة البيرة في الساعة الحادية عشر صباحاً، فردّت علينا أخبار صباح يوم اللقاء: استشهاد شاب في مدينة رام الله بعد مواجهات الليلة مع الاحتلال.. والمدينة تُعلن الحداد والاضراب، بينما كُنا نخطط منذُ ثلاثة أشهر للقاء، جهزتْ لي 2 كيلو قهوة من «صندوقة»، وخلعتُ لها شتلة لوز طلعت فجأة بأرضنا.. وهي المرة الأولى التي أصررنا فيها على أن نلتقي حتى لو كلّفنا ذلك أن آتي وأعود لبلدي البعيدة عن رام الله 27كم، مشياً على الأقدام، وهي أيضا.
قالت: أحبك، واشتقتُ لأسمعها منك، تنفجرُ بوجهي كميلاد طفلٍ شهيّ.
أردنا، فالتقينا.
وصلنا مُتأخرين، مشينا على جانبِي شارع ركب بطوله، هي على الجهة اليمنى وأنا اليسرى، نتعثر بالحجارة التي ألقوها الشُبان على «جِيبات» الاحتلال، فقط نتبادل نظرات دافئة جدا، تُغبشّها أحيانا بقايا نيران ودخان الإطارات التي ظلت مشتعلة، بعد سبع عشرة دقيقة وقفت دلال مُقابل «بسمان» للعطور، وهمست لي بابتسامه: أن تعالْ.
ذهبتُ، مدّتْ يدها، مددتُ يدي، تبسمنا، قالت: أحبك بحجم هذا الغضب هُنا.
قلت: أحبك بحجم القدس فينا.
تبادلنا قهوتي ولوزتها، ومضينا..
قلت في نفسي: أنتِ صُدفة هذا اللوز، أنتِ قدره.
وكأنّت جدتي تُخطط لي، لأُحب بعنف.
بعد تسعة أشهر، ضاعت دلال من يدي، صارت القدس غريبة، واختفت رائحة صندوقة من بيتي، ولأني من الذين لا يعشقون رحيل الحب بطريقة مُهينة، قررتُ أن لا أودّعه مرةً واحدة! مع إدراكي أنني أُعقدُ النسيان عليَّ، فزرعت لوزة باسمها وكتبت في بداية روايتنا:
قُلْ: هذهِ اللّوزةُ منْ أجلِ قِصتِنا، واطمَئِنْ.
حين يخرجُ الحبُ منْ دارِه، فإنّهُ لا يعودُ إلا إليهَا.
لا تُصدِّق أنّها اليوم أحبّتْ شاعِراً سِواكْ
أو قالت: يا الله! حينَ كتبَ لَها شاعرٌ إهداءً مُدْهِشَاً على رِوايتِه..
حينْ يُريدُ الحبُ أنْ يُصلحَ الجِسرَ الذي كَسرهُ البُعدُ والعَابِرون
فإنّهُ يُصلِحهُ.
لا تسألنِي كيف؟ لا تسألُه.
فالحُبُ لا يترُكُ لوزةً زُرِعتْ لأجلِه.