تاريخ النشر: 30 حزيران 2015

القادم من القيامة لوليد الشرفا: انتصار اللغة على استعارات المكان

بقلم: كلثوم مازن*

«تماماً عند المنطقة التي يستقر فيها ظل الواد مع ظل الجبل»، كانت مساحات التأويل، ظل فيها وليد الشرفا واقفاً على البرزخ الفاصل ما بين واقع وخيال، مساحات مليئة بالإستعارات والمفارقات التي أخذت بدلالة النص مرفوعة من التقرير إلى مستوى الإيحاء والمواراة... والتي ترتب بدورها لصراعات بين الأنساق والسياقات فاتحةً بذلك فراغات في البنية عند القارئ...فتكون كرموز تساعده في عملية فهم اللعبة اللا نهائية لـِ الدلالات...فيغيب الواقع وينحصر الخيال لصالح أرض التأويل فتكون «القادم من القيامة».
في البداية يطل علينا عنوان الرواية «القادم من القيامة»، وكأنه يحمل على كاهله عالماً كاملاً من المفارقات العنيفة، يستفز القارئ بإيحائاته غير المعقولة، رافضاً دلالات الحياة بمستوياتها الدنيا، فهو قادم في علاقة مع الحياة، إلا أنه جاء من قيامة أخرى فيه،ينزع ذلك الغطاء المرقّع عن الحياة، يحاول لملمة ما تبقى منه، ،يعيش صراعاُ داخلياً يبحث عن هويته الممزقة، يلملم بقايا ذكريات تبعثرت. بِنَحت الشرفا لمثل هذا العنوان فهو يعلن شراسة الدلالات منذ اللحظة الأولى، فهي عصية على الإمساك، تجاوزت مأزق الثنائيات لتقودنا إلى عالم مليء بالدلالات العنيفة المستفزة للوعي.
تحكي الرواية قصة ذكريات معلقة بسلك هاتف يصل بين الوطن والمنفى، هم أصدقاء ثلاثة، قرر الكاتب تعريتهم من أسمائهم،ليسجل بذلك إنكاره للواقع الذي يعيشونه، فكانوا الشهيد، والمهندس الذي اختار غربته، وذاك الذي ظل مكانه متوحداً مع ظله الرمادي و شاهداً على وطن يتمزق كل يوم، كانوا الحقيقيين الوحيدين في تلك المساحة، نقد الكاتب عبرهم الواقع الفلسطيني وما آلت إليه الأمور. فالمهندس قرر الفرار إلى مكان بعيد، والشهيد إرتقى تاركاً وراءه قبراُ، زوجة وطفلة، لاحقاً ينجح الشاعر القذر-الذي لطالما كرهه الشهيد- في الزواج منها،أما الثالث فيبقى في الوطن في حالة موت مؤجل،يرشو ذلك الموت بحفنة من الذكريات، يوقف ساعة الزمن رافضاً كل التحولات. تخفق جميع محاولات صديقه في اقناعه بالرحيل واستئناف عمل –نظيف- بعيداً عن وطن يتشوه.
في هذه الرواية ما يُثقِل خفة المكان، يلغي فيزيائيته، لكنه لا يستطيع أن يلغي عبقة، وليد الشرفا يبدو مشبعاً بذلك العبق حد الثمالة، لقد أخذ الشرفا المكان إلى عمق آخر فيه، تجاوز فيزيائيته، حفر في تاريخه، وغار في أعماق ذكرياته، لدرجة تجعل القارئ يشعر فيها وكأنه يتجول بين أزقة البلدة،يمتطي السروة حيناُ، يلسع البرد ظهره، يعيش تلك الأحلام المقلقة،التي لا تكتمل غالباً، يرى ازدحام السرد وسط ضجيج الحروف.
المطر في النص كالمطرقة من الكلمة الاولى وحتى ما بعد الأخيرة، وكأن المطر هو طقس العبور الخاص إلى قيامة أخرى. للمطر قدرة عجيبة على التذكير بالمنفى، وكيف للمنفى الاسود ان يكون مشمساً..! المكان في هذا النص تجاوز ثنائية الوطن و الإغتراب، إلى تفاصيل أكثر دقة، صغيرة جداُ، لكنها كانت بمثابة الحياة للنص.
ركّز الشرفا كثيراً على منطقة الحُلم في سرده، وهذا إن دل على شيء يدل على المستوى المتقدم من الدلالات، التي لا تكشف عن نفسها بسهولة، فالحلم تأويل، والتأويل يحتاج رموزاً ودلالات، ابتكرها الكاتب ليخرج بالنص إلى نص آخر،فكل تأويل نص، وكل نص سلطة، وكل سلطة لا يتحرر القارئ منها إلا بتأويل آخر، وبسلطة أكبر. برع الشرفا في هذه اللعبة الدلالية في نقد الواقع الإجتماعي والسياسي للفلسطيني عن طريق الحلم.
أما عن البنية الأسلوبة للنص، فهي التي تميز نص الكاتب عن غيره من النصوص، هي قدرته على رسم الصورة الذهنية عند القارئ، فالقارئ أنّا باشر في القراءة فإنه يبدأ بتكوين صور وتمثلات عن شخوص وأحداث الرواية، هنا يعمل العقل على تمثل الصورة او الشخصية الروائية وذلك بناءً على العلاقات النصية والدلالات الرمزية التي يقدمها الكاتب في نصه.
يمكن ملاحظة الدمج الذكي بين البنيات الأسلوبية التي اتبعها الشرفا والبنيات النفسية والإجتماعية للشخصيات التي تحدثت عنها الرواية، مستخدماً أسلوب المفارقة بعنف أدبي يخلّف تماهياً عند القارئ بين الأسلوب والمضمون بواسطة المفارقات.
برع الكاتب في ابتداع الذروات واحدة تلو اخرى، الموت و الحياة، يكشف لنا كم هو الموت قريب ونحن لا نشعر، يرينا كيف نجاور الموت كل لحظة لكنه يرحل ويتركنا على قيد الحياة.أما عن علاقة الوطن بالغربة،ففي بلاد الزجاج يتسائل الشرفا كيف يراه،يبحث في المرآة عن وجهه، عن وجوههم، إنه يبحث عن صور لن يجدها هناك، فمرآة الغربة لا تعكس إلا الظلال، هو يعي ذلك تماماً، يخاف أن يراه دونهم، دون الذكريات، إلا أنه وهو واقف على البرزخ بين وطن وسياج يستعيد توازنه يعود لجنته الأولى ولكن بعد فوات الأوان فالوطن صور تطوقك إطاراتها، هو اللا مكان، هو اللغة إذ باغتتك مجازاتها، الوطن هو المسافة بين يدك ونردك الذي القيته أول مرة...عندما ألقى الكاتب نرده أول مرة كان الوطن مختلفاً...!
ومن ناحية التشويق الموضوعي فقد تداخل خطاب السارد مع الفلكلوري والديني، مما له الأثر بإشعار القارئ بنوع من تدفق الصور الذهنية، فهي مترسبة في الذاكرة الجمعية، ولها دلالاتها ، ففي أكثر من موضع يستغل الكاتب جزءً بسيطة من قصيدة نزال قباني «قارءة الفنجان» والتي غناها الراحل عبد الحليم حافظ. الكاتب استغل المقطع الذي يخدم بنيته الموضوعية، «وستعرف بعد الرحيل العمر بأنك كنت تطارد خيط دخان...»
إذا هي مغامرة البحث عن الهوية والذات قبل انصهارها في بنية أخرى متأزمة،وليد الشرفا حمل نار بروميثيوس وصرخ فينا أن انهضوا.ابحثو عن ذواتكم تحت انقاض وطن يتهدم، حاولوا حماية الورد من أقدامهم، انتشلوا الذاكرة من فواهات بنادقهم،من انكسارات الضوء المباغتة في مراياهم، هم يحاولون اجتثاث ما تبقى من هويتنا وسط ضجيج المدن وازدحام الفراغ، يخنقون عنق الورد، ويدوسون الياسمين. يختم الكاتب نصه بسؤال استدراكي لا يخفى فيه قلق السائل يقول: «من أين سأبدأ لهم بالحكاية، والحبل يلتف حول أعناقهم؟». رواية القادم من القيامة كانت بمثابة طرقة على صندوق باندورا أملا في يقظة بعد طول سبات...!

* جامعة بيرزيت