
منطلقين من خبرة شابة ضيقة الواقع واسعة الخيال، بنى مجموعة من الشباب خشبة مسرح تتسعُ لأحلام وطموحات شباب وشابات الخليل في التعبير عن أنفسهم، بكل ما فيها من قضايا واقعية الإحساس، مندفعة بشغف نحو التغيير وتقديم ما هو نقدي وجاد وساخر يمس أحاسيس ومشاعر جمهور مدينة الخليل، حاملين شعار «نعم»، كواجهة لأنشطتهم المسرحية المتعددة أمام كل ما هو «لا» في المجتمع وما حوله.
تأسس مسرح «نعم» في الخليل العام 2008، بعد خروج مؤسسة «أيام المسرح» من المدينة تاركة خلفها مجموعة من الشباب المؤهلين والخاضعين لدورات وورش عديدة، والحاصلين على شهادات في الإخراج المسرحي، والتمثيل والكتابة المسرحية والدراما في التعليم، إضافة إلى تدريس الدراما، منتجين أكثر من أحد عشر عملاً مسرحياً لفئات المجتمع كافة.
وقد تأسس المسرح بعد شعور هؤلاء الشباب بأهمية استكمال العمل في المدينة، وضرورة وجود بنية مسرحية تفتح فضاءً إبداعياً، حيث لم تكن فيها أي بادرة مسرحية قبل مؤسسة أيام المسرح، فقد اندفع هؤلاء بالبصمة التي تركتها المؤسسة على أنفسهم، وفي محيطها، وبدؤوا في رحلة صعبة وطويلة لتأسيس مسرح «نعم».
حين تزور مسرح «نعم» في الخليل، وتسير في شوارع مدينة لا يأخذ المسرح الكثير من وقتها كما بعض المدن، فإن دور مسرح «نعم» هنا يأتي ضمن أهمية العمل الثقافي والفني بشكل عام، ومن عدةِ نواحٍ أخلاقية، اجتماعية، سياسية، وفنية إبداعية، وضرورة الحراك الثقافي الذي يسعى إلى صنع التغيير في المجتمع، من خلال استخدام الفنون الأدائية كطريق يقود هذا التغيير.
يقود العمل الفني في مسرح «نعم» مؤسسو المسرح الفنانون رائد الشيوخي، ومحمد الطيطي، وإيهاب زاهدة الذي كانت آخر أعماله مسرحية «خيل تايهة»، التي حصلت على الجائزة الأولى في مهرجان المسرح العربي في الرباط. ومن هذه المسرحية يمكن للمشاهد أن يرى التوجه الفني الذي يقود الدفة في مسرح «نعم»، نحو تطور الأداء المسرحي لغةً وجسداً ومساحةً متفاعلة بشكل طبيعي على خشبة المسرح، باستخدام عناصر حداثية لتأدية نص مسرحي بدوي، وحكاية قادمة من عمق الصحراء، وهنا فقد صنع مسرح «نعم»، وخلال أعوامه القصيرة، حالة فنية فريدة من نوعها في مدينة الخليل.
وقد أنتج مسرح «نعم» العديد من المسرحيات، إلى جانب العديد من التجارب المسرحية، من خلال مشاريع التدريب، وتعريض الجمهور العام للدراما، وقد كانت أهم المسرحيات التي أنتجت للطلاب مسرحية «المرجوحة»، و»في المكان»، و»نفس المشكلة»، و»سهر»، و»الزيارة»، و»الساحة»، و»غزة الخليل غزة»، وغيرها من المسرحيات المتعددة أيضاً في التناول والطرح، سواء من خلال استخدام نصوص عالمية، وإسقاطها على الواقع الفلسطيني كمسرحية في المكان للكاتب صموئيل بيكيت (في انتظار غودو)، إضافة إلى نصوص مسرحية عربية وأخرى فلسطينية من داخل المسرح للمخرج إيهاب زاهدة.
إلى جانب هذه الإنتاجات، قدم المسرح العديد من التجارب الفنية، من خلال طلبة المدارس الذين تم العمل معهم وتدريبهم خلال فترة زمنية معينة، ليتم إنتاج أعمال من وحيهم نابعة من أحلامهم وقضاياهم، وتعبر عما في داخلهم، أو قصص أخرى تم تحويلها إلى عمل مسرحي كقصة صانع الأحلام لطارق بكري.
ويعمل مسرح «نعم» عبر العديد من المشاريع في انخراط فئة الشباب، ليس في المشاهدة فحسب، بل في المشاركة بالتفاصيل أيضاً، وكذلك الوصول إلى أماكن عرض لا يمكن لأناسها الوصول إلى المسرح، إلى جانب العمل مع طلبة المدارس من خلال ورش الدراما، ودمج آخرين في عملية إنتاج مسرحية مخصصة للطلبة، وورش الرسوم المتحركة التي تحفّز الخيال لدى الأطفال، وتعمل على نسج هذا الخيال مع ما يتصل به من الواقع من قصص وصور، إضافة إلى الدراما في التعليم، من خلال تعريض معلمي المراحل الأساسية لتقنيات درامية للتعامل مع الطلبة، وإيصال المعلومات المنهجية، بمعنى أن تكون الدراما وسيلة تعليمية تفاعلية تجعل الطالب أكثر من كونه مستمعاً، بل صانعا أيضاً.
وخلال تجارب فنية للمسرح من خلال مشروع «نعم الشباب»، الذي تنخرط فيه مجموعة من الشباب والشابات في ورش عمل في الفنون الأدائية بشكل عام، والفنون المسرحية بشكل خاص، إضافة إلى تعليم الدراما للشباب والمراهقين، إلى جانب العمل في المدارس، فإن الرؤية التربوية التي تقود العمل في مسرح «نعم» أيضاً، مسلطة نحو التغيير في المجتمع والواقع معاً، حيث يصبح ما هو ممنوع في الشارع مسموحاً على خشبة المسرح، وما هو مرغوب يمكن تحقيقه على هذه الخشبة، وتكسير القوالب، وتغيير الأنماط، وإعادة تشكيل الوعي في المدينة.
وعلى الصعيد الإداري، فقد بنى مسرح «نعم» أسلوباً تقوده الحكمة في جعل الجانب الإداري مسانداً للجانب الفني بشكل يُؤسس العمل داخل المسرح، وينظم عملية الإبداع داخله، ولقد أثبت المدير الإداري للمسرح المهندس محمد عيسى قدرةً هائلة، منذ بداية التأسيس، على الصعود بالمستوى الإداري للمسرح، وتجنيد كمية من مصادر التمويل المحلية والعالمية إضافة إلى بناء شراكات في مختلف دول العالم، حيث يمكنك أن ترى ذلك، وبكل بساطة، من خلال زيارة سريعة للموقع الإلكتروني بخيارات اللغة الخمسة.
بنى مسرح «نعم» نفسه من بقايا حلم لم يكتمل، واستمر بالصعود نحو تمييز نفسه على خشبة المسرح، وفي الجانب الإداري، حيث أن مسرح «نعم» هو عضو في برنامج شبكة الفنون الأدائية الفلسطينية، إلى جانب إحدى عشرة مؤسسة أخرى تؤمن بإيصال الفنون الأدائية إلى جميع الناس، وجعل الفنون الأدائية قطاعاً كاملاً قائماً بذاته، إلى جانب قطاعات المجتمع الأخرى، يسعى كل من فيه إلى العمل على تغيير الإنسان والمجتمع، من خلال الفنون الأدائية، كوسيلة للتغيير، وكحاجة أساسية للتعبير عن الذات والاتصال مع الناس.
شبكة الفنون الأدبية الفلسطينية.a