بقلم: ميرون رابو بورت
بعد أن انتهى عد الأصوات في الانتخابات النيابية الإسرائيلية، العام 2009، بدا واضحاً أن التمثيل السياسي للمجتمع القومي الديني قد أفل نجمه، وذلك أن حزب البيت اليهودي، وهو وريث الحزب القومي الديني الذي مثل في برلمانات إسرائيل كافة منذ تأسيسها، حصل على ثلاثة مقاعد مقارنة بـ 10 إلى 12 مقعداً كان يحصل عليها منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي.
ما حدث هو أن القوميين المتدينين، الذين طالما سعوا إلى الجمع بين التزامهم التام بالحركة الصهيونية والتزامهم بالتقاليد اليهودية – وذلك على العكس من اليهود المتدينين الأرثوذكس الذين رفضوا الفكرة الصهيونية – انتهى بهم الأمر إلى الاندماج بأحزاب إسرائيل السياسية العلمانية، وبشكل خاص بحزب الليكود الذي منح حيزاً كبيراً للمستوطنين، حيث يشكل بينهم قطاع المتدينين القوميين أغلبية مطلقة.
وفي أواخر العام 2002 برز نافتالي بينيت، وهو ضابط سابق في وحدة المغاوير، كوّن ثروة من عمله في صناعة التقنيات، وتسلم زمام الأمور في حزب البيت اليهودي.
وكان نافتالي عيّن في العام الماضي وزيراً للاقتصاد ووزيراً للخدمات الدينية، ومازال يشغل المنصبين حتى اللحظة.
حصل الحزب على 12 مقعداً في انتخابات العام 2013 ويتوقع له أن يفوز بما لا يقل عن 15 مقعداً في الانتخابات التي من المفترض أن تجرى في آذار القادم، ما من شك في أنه الحزب الأكثر جذباً هذه الأيام.
يتنافس الآن في التصفيات الأولية تمهيداً للانتخابات القادمة 44 مرشحاً، وهو عدد كبير يتجاوز المرشحين في كل واحد من الأحزاب الأخرى بما في ذلك "الليكود" و"العمل".
اثنان من المرشحين ليسا يهوديين ملتزمين (أحدهما مسلم والآخر درزي)، وهو الأمر الذي يتنافى مع ما كان حتى وقت قريب شرطاً أساسياً ينبغي أن يتوفر في كل من كان يرغب في الترشح على قائمة الحزب الديني القومي الذي يأمل نشطاؤه في أن يصبح زعيمه بينيت رئيساً للوزراء في إسرائيل، إن لم يكن في الانتخابات القادمة ففي الانتخابات التي تليها.
كون ممثلي هذا التيار من ذوي القلنسوات المحيكة (والقلنسوات المحيكة التي يلبسونها تميزهم عن القلنسوات الكبيرة المصنوعة من الفرو التي يلبسها اليهود المتدينون الأرثوذكس) يطمحون إلى تسلم هذا المنصب لا يقل عن ثورة سياسية واجتماعية.
فحتى في أيام عزها كانت هذه المجموعة هامشية في المجتمع، ولا تزيد على كونها حكاية جانبية على حافة المشروع الصهيوني.
صحيح أن ذوي القلنسوات المحيكة شكلوا العمود الفقري لحركة الاستيطان، إلا أنهم تركوا حزب الليكود العلماني يتسلم زمام السياسة على المستوى الوطني، أما الآن، وتحت زعامة بينيت، فهم يرغبون في الانتقال من الجلوس في المقعد الخلفي إلى تسلّم عجلة القيادة.
يعزو الكثير هذا التغير إلى بينيت نفسه، فقلنسوة صغيرة تستقر على رأسه الحليق، لا تشبه شخصيته من قريب أو بعيد شخصية الزعيم المتدين الذي ينفر منه كثير من العلمانيين الإسرائيليين حتى داخل التيار اليميني.
وهو في الوقت ذاته نموذج حي لرجل الأعمال الناجح في صناعة التقنيات العالية بعد أن باع الشركة التي أسسها، واسمها سيوتا بـ 145 مليون دولار، وهو إنجاز مقدر جداً في بلد يفتخر بأنه وطن "الصاعدين على سلّم النجاح".
مثل كثيرين ممن ينتمون إلى تياره، خدم بينيت كضابط في وحدة مغاوير تابعة للجيش الإسرائيلي، وهذه الحرفة العسكرية تساعده على تعزيز صورته كوطني حقيقي وتسمح له بتبني أسلوب حديث أشبه بأسلوب العسكر.
يتردد بينيت على الكنيس، ولكنه على النقيض ممن سبقه من زعماء حزبه لا يتشاور مع الحاخامات قبل أن يتخذ قراراً سياسياً معيناً، ومن المؤكد أنه الأقل تديناً من بين جميع الزعماء الذين عرفهم هذا الحزب الديني.
لقد كُتب الكثير عن الأهمية التي تعلق على القدسية المضفاة على توطين اليهود في "أرض إسرائيل" (فلسطين) بعد حرب العام 1967، بل اعتبر حاخامات ونشطاء المجتمع القومي المتدين ذلك قياماً بواجب توراتي، وما كان لحركة الاستيطان بأسرها أن تمضي قدماً لولا هذه المفاهيم.
يعتقد بينيت جازماً بأن "أرض إسرائيل" ملك للشعب اليهودي بموجب حق إلهي حصري لهم دون سواهم، ولذلك فإن فكرة إقامة دولة فلسطينية على أية بقعة من هذه الأرض المقدسة يعد مرفوضاً، وهو في هذا يسير على نهج من سبقه من قادة هذا التيار.
إنما يكمن الفرق بينه وبينهم في أنه لا يخفي آراءه، ولا يطلب من النخب ذات التوجه اليساري أن تتفهمه، لقد نقل عنه القول: "لقد قتلت الكثير من العرب ولا أجد مشكلة في ذلك"، ونقل عنه أيضاً القول إن الفلسطينيين ليسوا أكثر من "شظية في القفا".
وشعار حملته الانتخابية الحالية هو "توقفوا عن الاعتذار"، وهذا بمثابة العكس تماماً من الشعار السابق الذي تبناه معسكر الاستيطان الذي تحدث عن "الاستيطان في القلوب"، ويقصد به في قلوب عامة الإسرائيليين.
خلال عملية الجرف الواقي ضد غزة في الصيف الماضي، وقف بينيت موقفاً معارضاً ليس فقط لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وإنما أيضاً للجيش الذي تضفى عليه في العادة صفة القدسية، إذ اعتبرهما جميعاً خاطئين من وجهة نظره، لأنهما لم يملكا من الجرأة ما يكفي للمضي قدماً إلى نهاية المطاف وسحق "حماس" تماماً وإعادة احتلال قطاع غزة بأسره.
ونظراً لأن معظم الإسرائيليين يرون نتيجة الصراع مع "حماس" تعادلاً، إن لم يكن فشلاً ذريعاً، فإن ذلك أكسبه تقديرا كثيرا من منتسبي معسكر اليمين وليس بالضرورة فقط منتسبي المعسكر الديني.
يقول داني دايان، الرئيس السابق لمجلس "يشع" (الذي يمثل المستوطنين) والمرشح العلماني في التصفيات اليهودية الأولى، إن مثل هذه المقاربة تكسب بينيت الكثير من الأصوات في أوساط الشباب الإسرائيليين المتخرجين من الخدمة العسكرية.
وبحسب استطلاعات الرأي يحتل حزبه المرتبة الأولى في أوساط الناخبين في سن الخامسة والعشرين وما دونها.
ويشرح ذلك دايان بالقول إن معظم الإسرائيليين ولدوا بعد حرب العام 1967، وبذلك فهم لا يعرفون إسرائيل دون الضفة الغربية، ونفس الشيء ينطبق على ما يزيد على مليون من المهاجرين الذين قدموا من الاتحاد السوفياتي سابقاً في التسعينيات من القرن العشرين، وكل هؤلاء إقناعهم بوجوب أن تتخلى إسرائيل عن الضفة الغربية أصعب بكثير من إقناعهم بضم هذه المناطق إليها.
ومع ذلك، ثمة عنصر آخر ربما يساهم في جذب الناخبين الإسرائيليين إلى هذا الحزب الديني.
كان المستوطنون ومن يقف خلفهم من أحزاب يمينية يسعون طوال السبعة والأربعين عاماً الماضية إلى تغيير الوقائع على الأرض بحيث يصبح مستحيلاً أن تقام دولة فلسطينية قادرة على البقاء والاستمرار، والآن، وبعد أن تم توطين ما يزيد على 350 ألف إسرائيلي في الضفة الغربية، يشعرون بأنهم أنجزوا مهمتهم وأنهم الآن على استعداد للانتقال إلى الخطوة التالية، ألا وهي وضع أجندة خاصة بهم لرسم مستقبل إسرائيل وصراعها مع الفلسطينيين.
حتى الآن لا يوجد مقترح واحد مترابط ومشترك لمنتسبي هذا القطاع، خذ دايان على سبيل المثال الذي يقترح إلغاء الحكم العسكري في الضفة الغربية، وتفكيك جدار العزل ونقاط التفتيش لمنح الفلسطينيين حقوقاً مدنية كاملة دون منحهم حق التصويت في الانتخابات البرلمانية.
وأما بينيت فيقترح ضم المنطقة "ج" – وهي تقريباً 60 بالمائة من مساحة الضفة الغربية – ومنح الحقوق السياسية الكاملة للفلسطينيين الذين يعيشون داخلها ويقدر عددهم بـ 100 ألف إنسان.
وهناك آخرون (من أعضاء حزب الليكود) مثل الرئيس روفين ريفلين يقترحون منح هذه الحقوق لجميع الفلسطينيين في الضفة الغربية، ما ستتحول معه إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية.
يبدو المعسكر المحيط بحزب البيت اليهودي إلى حد ما عاجاً بالأفكار أكثر مما يعج بالزعماء على شاكلة زعيم حزب العمل إسحق هيرتسوغ وزعيمة حزب الحركة تسيبي ليفني اللذين لا يزالان لصيقين بفكرة المفاوضات التي لا تنتهي مع الفلسطينيين، وهي مفاوضات لا تؤدي إلى شيء وتتجاهل الوقائع على الأرض.
وإزاء ذلك يشعر كثير من الإسرائيليين أن بينيت "يخبرهم بالحقيقة" بينما هيرتسوغ وتسيبني يبيعونهم حزمة من الأكاذيب.
ومع ذلك، يعترف حتى دايان بأن بينيت والمعسكر السياسي الذي يمثله غير جاهزين لتسلم زمام القيادة في إسرائيل – ليس فقط لأنه من المستحيل تشكيل حكومة بخمسة عشر أو حتى سبعة عشر مقعداً في البرلمان، وخاصة إذا كنت جزءاً من اليمين المتطرف، وإنما لأن بينيت غير قادر بعد على صياغة مقترح لضم الضفة الغربية بحيث يمكن أن يكون مقبولاً لدى معظم الإسرائيليين.
لعل هذه هي أكبر مفارقة إسرائيلية، فإسرائيل غير قادرة على التوصل إلى تسوية يتسنى لها من خلالها التخلي عن الضفة الغربية وغزة، بينما هي في الوقت ذاته غير مستعدة لابتلاعهما، ولعل نجاح بينيت يسلط الضوء على الطريق المسدود الذي تجد إسرائيل نفسها قد وصلت إليه.
عن "ميدل إيست آي"