في المدرسة تعلمنا وحفظنا أشعار أبو الطيب المتنبي.. كان الأستاذ يطنب في مديح الشاعر وتعداد مناقبه، حتى خُيِّل لنا أنه شخص عظيم، وظل يثني على قصائده في مديح كافور، وسيف الدولة.. ولكن لم يجرؤ هو أو غيره على القول: إنه هذا النوع من الشعر تملّق، وفي مصطلحاتنا الفيسبوكية «تسحيج».
بالتأكيد المتنبي شاعر عظيم، لكنه ليس عظيماً في كل شيء، وليست كل خصاله عظيمة.
في دروس الدين، أيام كنت مع الإخوان، قالوا لنا: إن الخطط العسكرية العبقرية لخالد بن الوليد لم تتكرر في كل الأزمان، ولشدة عبقريتها ما زالت تُدرس في أرقى الكليات العسكرية..
طبعاً خالد بن الوليد كان قائداً عسكرياً محنكاً، ولكن بمقاييس عصره، فتلك الحروب التي كانت تعتمد السيف والرمح ولّى زمانها، ولا توجد أيّ فائدة علمية من دراستها الآن، ربما انتهت فعاليتها في زمن المنجنيق، فما بالك في زمن المسيّرات الموجّهة والذكاء الاصطناعي!! ثم ما أسماء تلك الكليات العسكرية التي ما زالت تدرّس الخطط الحربية التي تلتفّ من وراء الجبل؟
واستمراراً للنهج ذاته، يعيد «الدويري» التأكيد مرات عديدة، أنّ أسلوب المقاومة وخططها في غزة من شدة عبقريتها تُدرَّس في أرقى الكليات العسكرية، وأحياناً يقول: يجب أن تُدرَّس.. ولا أعرف ما الصور التوضيحية التي سيستخدمها المدرّس لإثبات وجهة نظره، وما الأرقام والبيانات التي سيستدل بها، وما النتائج الإستراتيجية التي سيستخدمها كدليل على عبقرية الخطط!
لا شك أن المقاومين أظهروا شجاعة وبطولة، واستبسلوا في التصدي لدبابات الاحتلال، ومنهم من ضحّى بروحه.. لكن المبالغات والتضخيم، وبيع الأوهام لا تُدرّس في أرقى الجامعات.. ولا حتى في أدناها، إنما تُدرَّس في قناة «الجزيرة».
بدأتُ القراءة مبكراً، وتقريباً كنتُ أطالع في مختلف المواضيع.. في البدايات كنت آخذ كل ما أقرؤه على محمل الجد، واعتبره من المسلّمات التي لا يجوز التشكيك بها.. إلى أن بدأت الخيوط تتشابك، والخطوط تدخل على بعضها.. أي بدأت التناقضات تظهر بين الكتّاب، وصارت التباينات في وجهات النظر تصيبني بالحيرة.
احتجتُ بعض الوقت حتى صرتُ أميّز بين الكتب السطحية والعميقة، وبين التنظير والتحليل، وبين الكتابة الشعبوية والمسؤولة.. ومع مرور الوقت صارت قراءاتي نقدية.. ولكن ليس إلى درجة التجرؤ على التشكيك، وطرح الأسئلة.
قرأتُ بعض كتب إدوارد سعيد، وهو قامة عالمية، ومفكر كبير، ومع ذلك لاحظت البساطة في كتبه السياسية، خاصة التي تناول فيها الشأن الفلسطيني.. لم أجرؤ على قول ذلك، خشية أن يقول لي أحدهم: من أنت حتى تنقد كاتباً عظيماً مثل إدوارد سعيد؟
قرأت بعض العبقريات لعباس العقاد، وأُبهرت بعظمة الشخصيات التي تناولها (الخلفاء الراشدون)، لكني بعد أن قرأت كتب الشيخ خليل عبد الكريم لاحظت الفرق بين الطرح التسطيحي والتصوير المثالي غير التاريخي، وبين الأسلوب العلمي الذي يأخذ بالاعتبار الظروف الموضوعية والتحليل السوسيولوجي، برؤية تاريخية.. وهذا أشد وضوحاً في كتابات هشام جعيط، ومهدي عامل وحسين مروة.
كان د. مصطفى محمود يبهرنا في برنامجه «العلم والإيمان»، واكتشفنا متأخرين أنه كان يعلّق على الصورة فقط، ثم يربط الظواهر الطبيعية بآيات قرآنية أو بتصورات دينية معيّنة، ربطاً إيمانياً رغبوياً موجهاً لا يستند إلى أسس علمية.
كنا نظن أن كل من ورد اسمه في كتب التاريخ هو بالضرورة شخص عظيم، من جميع النواحي والجوانب، فتخيلناهم أناساً فوق البشر، وفوق التاريخ، وفوق قوانين الطبيعة وعلم الاجتماع.. بما فيهم ابن خلدون نفسه، مؤسس ورائد علم الاجتماع.
وكنا نعتقد أن كل ما يقوله أستاذ المدرسة صحيح بالضرورة والمطلق، حتى دخلنا الجامعة، فصرنا نظن أن كل من يحمل شهادة دكتوراه عبقري أو على الأقل مثقف من طراز رفيع.. ومن بعدها تكشفت الفظائع وخيبات الأمل.
وكنا نعتقد أن كل ما يقوله الشيخ عبارة عن حقائق دينية لا تحتمل الشك، وأنه يمثل الإسلام.. إلى أن اكتشفنا متأخرين حجم التضليل، والتقوّل وأنواع التجارة بالدين، وأنواع النصب المقدس.
وحين انتمينا للأحزاب والحركات الوطنية، كان كل واحد منا يظن جازماً وبكل يقين وتعصّب أن نظرية حزبه وخطه السياسي وبرنامجه الكفاحي وكل أطروحاته هي الصحّ الوحيد الذي يجب أن يُتبع، وما عداه باطل وحماقات.. إلى أن تفتّح وعينا أكثر ورأينا الحماقات الحقيقية.
وكنا نظن أن العالم منقسم إلى قسمَين فقط، ولا ثالث لهما: الخير والشر، الحق والباطل.. ثم تبين لنا أن المسألة أشد تعقيداً وأكثر تشابكاً من هذا التصنيف البدائي، وأنه بين الأبيض والأسود ما لا حصر له من الألوان، ومن الخيارات والصور والمفاهيم المتداخلة.
ومع أننا في عصر التكنولوجيا والرقمنة والذكاء الاصطناعي، وقد تكشفت الكثير من الحقائق، وصار الناس على درجة وعي أفضل.. إلا أن البعض، أو الكثير لدرجة الأغلبية، ما زالوا في كهوف التاريخ، وبنفس العقلية الخرافية والتسطيحية.. وعندما تختلف مع أحدهم في أيّ قضية، يُخرج فوراً هاتفه النقال ويسأل «غوغل»، حتى لو كان الخلاف في مسألة فقهية أو حول تفسير آية قرآنية، ستكون أول إجابة تظهر له هي المعتمدة والمصدَّقة.. وكأنه يريد القول رواه «غوغل».
طبعاً «غوغل» محرك بحث مهم.. لكن المحرك الأهم هو الدماغ، والذي نستسهل تأجيره للسابقين، ولا نجرؤ على تشغيله بحريّة واستقلالية.
استدراكات متأخرة، وخيبات متتالية، لكن خيبة الأمل الكبرى تمثلت في التفاعل مع الحرب العدوانية على غزة، وقد تبين كم نحن بلهاء وساذجون وعاطفيون، ونموت في الشعارات الرنانة، والجُمل السجعية، والخطابات الإنشائية.. ولا أقصد الناس العاديين الطيبين، بل المثقفين والإعلاميين والدكاترة وقادة الأحزاب، واليساريين والقومجيّين الذين يتحدثون من مساحاتهم الآمنة.. وقد فشلوا حتى في إنسانيتهم والانحياز للمسحوقين وللجوعى في القطاع.