تاريخ النشر: 25 تشرين الأول 2025

المفقودون في غزة.. شهادات وفاة معلّقة بانتظار إثباتات قطعية

 

كتب محمد الجمل:

 

خلّف عامان من الحرب الإسرائيلية المُستعرة على قطاع غزة الكثير من المشكلات والأزمات، خاصة فيما يتعلق بالمفقودين، الذين لم يجد أقاربهم لهم أي أثر، ولم يتم التعرف على جثامينهم.
وانقسم المفقودون في القطاع إلى قسمين: الأول مواطنون كانوا في منازل وبنايات قبل تعرضها للقصف، وقد فُقدوا، ويعتقد أن جثامينهم ما زالت قابعة تحت الركام. والقسم الآخر مواطنون خرجوا من بيوتهم وخيامهم، وغالبيتهم توجهوا إلى مناطق خاضعة لسيطرة الاحتلال، ثم فقد الاتصال بهم، ولا يعرف عنهم أي شيء.

 

التعامل بثلاثة مستويات

ويتم التعامل مع المفقودين وفق الإجراءات المعمول بها في غزة عبر ثلاثة مستويات: المستوى الأول شخص مفقود، ولم يُعثر له على جثمان، ولا توجد معلومات عنه، وهذا يبقى مسجلاً على أنه مفقود، دون أن يمنح ذووه شهادة وفاة أو أي مستند حتى يتضح مصيره، ويتم تقديم إثبات الوفاة.
والمستوى الثاني مفقود وجد ذووه جثمانه أو رفاته بعد فترة، سواء تحت الركام، أو في مناطق كانت تخضع لسيطرة الاحتلال، كما جرى مؤخراً مع عشرات الجثامين سواء في غزة أو خان يونس، وجرى نقل الجثمان إلى مستشفى حكومي، وهناك أثبت حضور جثمانه والتعرف عليه، حينها يتم إدراجه ضمن حصيلة الشهداء، ويمنح ذووه شهادة وفاة.
أما المستوى الثالث وهو الأكثر تعقيداً، ويتمثل في مشاهدة شخص أو أكثر لجثمان شهيد، دون التمكن من نقله أو دفنه، وهذا يحدث بسبب ظروف الحرب، وفي هذه الحالة وغيرها من الحالات، تتم إحالة الملف للجنة القضائية، التي تبتّ بأمر المفقود، وفق إجراءات وصفت بأنها صارمة.

 

حالات من الواقع

وهو ما حدث مع الشهيد خليل حازم الجمل، الذي استشهد بتاريخ 24 تشرين الأول عام 2024، كما يؤكد شقيقه بلال قائلاً: توجه والدي وشقيقي لحي التنور شرق مدينة رفح لجلب ملابس وأغطية شتوية، وكانا يستقلان دراجة "توك توك"، ومعهما شخص ثالث، وتعرضت الدراجة للقصف المباشر، ونجا الشخص الذي كان معهما، لأنه حينها كان توجه إلى منزله لجلب حاجيات، واستطاع مغادرة المكان دون أن يعرف مصير والدي وشقيقي.
وأكد الجمل أنه وبعد 8 ساعات على فقدان الاتصال بهما، توجه شخص من العائلة برفقة الشخص الناجي للمنطقة رغم خطورتها، ووصلا إلى المكان، وشاهدا الجثمانَين على الأرض، لكنهما عجزا عن انتشالهما، لخطورة المنطقة، وتحليق الطائرات، وعدم امتلاك أداة لنقلهما، واضطرا للمغادرة، وتركا الجثمانَين على الأرض.
وقال: بعد 4 أيام عدنا للمنطقة، ولم نجد سوى بقايا جثمان والدي حازم الجمل، وكان جثمان شقيقي مفقوداً، وجرى نقل جثمان الأب للمستشفى، وتم إثبات الوفاة، ومنحوا شهادة وفاة لحازم، موضحاً أن جثمان خليل بقي في عداد المفقودين لفترة طويلة، حتى تقدموا بطلب للجنة القانونية، التي باشرت بالتحقيق، ومثل الشاهدان أمامها، وأديا القسم، وتحدثا عن التفاصيل، وموقع وجود الجثمانين، وحالتهما، وظروف الاستشهاد، وبعد مدة جرى منح شهادة وفاة لشقيقه، أسوة بوالده.

 

لمن تُمنح شهادة الوفاة

ووفق مصادر مطلعة في داخلية غزة، فإن منح شهادة وفاة لشخص مفقود أمر بالغ الصعوبة، ويمر بعدة مراحل، أولها التبليغ عن مفقود، ثم مجيء شاهدين مكلفين ومثولهما أمام لجنة من القضاة، وتقديم إفادة مشفوعة بالقسم، تفيد بمشاهدة جثمان المفقود، ويا حبذا لو كانت هناك إثباتات مثل صورة للجثمان، أو غيرها، وتحديد المنطقة والزمان والمكان بدقة، وإعطاء تفاصيل حول الحادثة.
وذكرت المصادر أن القضاة عندما يطمئنون لشهادة الشهود، يتم إدراج المفقود ضمن قائمة الشهداء، وإحالة الملف لوزارة الصحة، التي بدورها تعطي ذويه شهادة وفاة.
وهذا ما يفسره إضافة أشخاص كل فترة معينة لقائمة الشهداء، بحيث تعلن وزارة الصحة في غزة عن إضافة دفعات جديدة لقائمة الشهداء، بعد استكمال إجراءاتهم من قبل اللجنة القانونية.
ورغم ذلك، فثمة أخطاء حدثت، إذ رصدت "الأيام" حالة على الأقل، جرى اعتمادها من اللجنة القانونية على أنه شهيد، بعد قيام شهود بحلف اليمين أمام جهات قضائية في غزة، ومنح شهادة وفاة وفق ذلك، ليتضح لاحقاً أنه كان معتقلاً، وجرى إطلاق سراحه، ثم دعته وزارة الصحة لتصحيح الأمور، وقد جرى هذا الخطأ نتيجة اشتباه في جثمان مشوّه، اعتقد الشهود أنه يعود للمذكور.

 

معضلة الجثامين المُسلّمة

ومؤخراً برزت مشكلة الجثامين التي سلّمها الاحتلال للجانب الفلسطيني، وغالبيتها لشهداء من عناصر "القسام"، سقطوا في غلاف غزة في السابع من تشرين الأول عام 2023، حيث تم تسليم الجثامين دون معلومات وهي مشوّهة، يصعب التعرف عليها، خاصة بعد مكوثها عامين في الثلاجات.
وأكد مدير عام وزارة الصحة في غزة، منير البرش، أن المشاهدات الأولية للجثامين المسلّمة من إسرائيل توثق آثار تعذيب وتكبيل وتشريح بعض الجثامين وتفريغها وحشوها بالقطن.
وحسب البرش، فإن الطواقم الطبية تواصل التعامل مع الجثامين وفق الإجراءات الطبية والبروتوكولات المعتمدة، تمهيداً لاستكمال عمليات الفحص والتوثيق والتسليم للأسر، بعد التعرف عليها.
وفي ظل غياب المعلومات، تضطر الطواقم الطبية لاستخدام طرق بدائية منها الطول والبنية، وشكل الأسنان، والإصابات المحتملة والأدلة الظاهرة للجثث، والعلامات الفارقة، ثم توثيقها من قبل الأدلة الجنائية.
واعتمدت وزارة الصحة في غزة طريقة عرض صور الشهداء على شاشات كبيرة داخل مجمع ناصر الطبي، وكذلك عرضها على شبكة المعلومات الإلكترونية، من خلال رابط خاص، بحيث يدخل أهالي المفقودين إلى الرابط، وفي حال شكّوا في صورة أنها تعود لجثامينهم، يقومون بالتبليغ، ثم يتم استدعاؤهم لمعاينة الجثمان.
ووفق مصادر طبية، فإنه وفي حال تطابق الاشتباه، يتم استدعاء العائلات إلى مجمع ناصر الطبي للتعرف الميداني، قبل استكمال الإجراءات لدى جهات الاختصاص، تمهيداً لتسليم الجثمان لعائلته.
واضطرت وزارة الصحة لدفن جثامين 54 شهيداً مجهولة الهوية، الأربعاء الماضي، من تلك الجثامين التي تسلمتها في الآونة الأخيرة من الاحتلال.
وجرى دفن الجثامين في مقبرة جماعية بمدينة دير البلح وسط القطاع، بعد تعذر التعرف عليها، نظراً للتشوهات الكبيرة التي أصابتها، بسبب تنكيل الاحتلال بالجثامين.
وأكد الثوابتة أن الجثامين التي جرى دفنها استوفت المدة المحددة (نحو 5 أيام)، وتم توثيقها وتصويرها مع متعلقاتها قبل دفنها في قبور مُرقمة، بعد تعذّر التعرف إليها بسبب طمس الملامح من التعذيب.
ووفق وزارة الصحة في غزة، فإن الثلاجات في مجمع ناصر الطبي لا يمكنها الاحتفاظ بالجثامين لفترات طويلة، لذلك فالجثامين التي لا يتم التعرف عليها خلال 5-7 أيام من وصولها، ستدفن وفق إجراءات وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، وبخارطة مكانية تحفظ موقع كل جثمان وفق الرقم المخصص له، لضمان إمكانية الاستدلال عليه مستقبلاً.
وبينت أنه تم التعرف حتى اللحظة على هوية 57 شهيداً من قبل ذويهم، من أصل 195 شهيداً، جرى تسليمهم مؤخراً، من خلال رابط الاستدلال الذي تم نشره مؤخراً.
ووفق جهات الاختصاص، يصل عدد المفقودين في قطاع غزة إلى نحو 13 ألفاً، لا تتوفر معلومات كافية عنهم، بينهم نحو 10 آلاف تحت ركام بيوت مقصوفة، يصعب انتشالهم دون وجود آليات ثقيلة ومعدات خاصة.
وحسب تقرير نشرته صحيفة "هآرتس" العبرية في تموز الماضي، يحتجز الجيش الإسرائيلي 1500 جثمان لفلسطينيين من قطاع غزة داخل معسكر "سديه تيمان"، بينهم أسرى قُتلوا تحت التعذيب، وآخرون قتلوا بعد دخولهم غلاف غزة.