في الأيام القليلة الفائتة افتتحت معظم نشرات الأخبار، في المحطات الفضائية، تغطياتها بالحديث عن جثث الرهائن الإسرائيليين عند حماس والفصائل، والتي من المفترض تسليمها كما ينص عليه البند الأول من الاتفاق المُوقّع لوقف إطلاق النار في غزة.
فبين خبر يركّز على تهديد نتنياهو لحماس إن هي لم تلتزم بحذافير الاتفاق، وبين تعليمات وزير دفاعه كاتس للجيش بالاستعداد لمواجهة احتمال كهذا، وبين الأخبار المتعلقة بقلة المعدّات القادرة على البحث والتنقيب عن الجثث، أو تحديد أماكن تواجدها، وتلك التي تركز على التحليلات المتعلقة بالوقت إن كان كافياً أو لا، وبالتالي المطالبة بضرورة تمديده.
بين كل هذه الوجبات المتلاحقة من الأخبار والتحليلات اختفت الأخبار المتعلقة بالناس وبمعاناتهم.
ومع الاحترام الكامل لحرمة الجثث وأصحابها مهما كانت دياناتهم أو جنسياتهم، وهذا مبدأ أخلاقي عام لا يتجزأ، إلا أن السؤال الملح يطرح نفسه بنفسه: هل مصير مليونيّ فلسطيني صار معلّقاً بالعثور على هذه الجثث؟ أو لنطرح التساؤل بشكله المحزن، والذي يمكنه مساعدتنا في الاستخلاصات النهائية: هل وصلنا إلى مرحلة يقرر فيها الميت الإسرائيلي مصير الحيّ الفلسطيني؟
أعرف أن الإجابة عن هذا التساؤل محرجة، بل هي بشعة ومُذلة لنا كفلسطينيين، حتى لو كان الأمر مؤقتاً أو مرحلياً.
لكن هذا المؤقت حين يصادف وجوده مع اللحظة التي يتوقف فيها القتل اليومي، باتفاق يحضره أكثر من عشرين دولة مؤثرة من الإقليم ومن العالم، لا يمكنه إلا أن يشير إلى مواطن الخلل التي تعتري خطابنا اليومي، وقناعاتنا المُصدِّرة لهذا الخطاب، والجمهور الجاهز لتصديق ما يُقال له والمصادقة عليه، وبالتالي إعادة إنتاج هذا الخطاب كحقائق لا يمكن نقاشها.
من هذه الحقائق، وعلى رأسها بالطبع، هو الحديث عن إعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة العالمية، أي بمعنى تدويل هذه القضية بشكل أو بآخر. فإذا أخذنا هذه المعلومة كحقيقة غير قابلة للشك، فعلينا أن نؤمن، بناء عليها، بأن التحرير قادم لا محالة، وأن الاحتلال ومشروعه الاستيطاني سينكفئ بمساعدة هذا العالم وبدفع منه.
لا نريد أن نثقل على أصحاب هذه النظرية، بشكلها المجرد، ونطالبهم بشرح الكيفية التي سيتم بها هذا التحرير، ولا بالزمن الذي سيستغرقه هذا التدويل ليفعل فعله على أرض الواقع، بقدر ما يكفينا ذكر المعطيات السياسية التي نشأت تبعاً لإعادة القضية إلى الواجهة، وقدرة أصحاب هذه المعطيات على فرض رؤاهم السياسية على أرض الواقع.
لا يكفي أن نأخذ كل هذه المظاهرات في أنحاء العالم، والتي تهتف معنا ومع حقنا، وضد الهمجية الإسرائيلية، على أنها انقلاب سياسي يملك أدوات التغيير، بقدر ما هي ثورة ضد الظلم وضد القتل وضد بشاعته.
صحيح أن الشعب الفلسطيني هو عنوان هذه الثورة، لكن لا بد من الأخذ بعين الاعتبار تفصيلين مهمين فيما يخص هذا التحرك العالمي:
الأول هو أنه تدويل للمأساة الفلسطينية أكثر من كونه تدويلاً للقضية الفلسطينية كقضية سياسية.
لا ننفي بالطبع أن التعاطي مع المأساة بهذا التضامن الواسع، يؤدي إلى مكاسب سياسية، لكن هذه المكاسب حين تكون خارج سلة المطالب الأساسية، والمتفق عليها، فلا معنى لها.
أقصد أن الشعب الفلسطيني ناضل ودفع ثمناً كبيراً من التضحيات، على مدار سنوات هذه القضية، ليحقق مطلبه في إزاحة الاحتلال عن أرضه، وإقامة دولته المستقلة على حدود السابع من حزيران 1967، وبالتالي فكل مكسب لا يؤدي إلى هذا الهدف، لا وظيفة له إلا رفع المعنويات ودغدغة الشعور بتحقيق شيء ما.
وبلغة أكثر تبسيطاً ومباشرة: ماذا يفيدنا سقوط نتنياهو ومحاكمته أو حتى سجنه إن كان هذا إنجازاً، ما دام الحل القادم لقضيتنا سيكون ريفيرا أميركية في غزة؟ أو لعلنا نتفاءل قليلاً ونقول إدارة دولية لحكومة تكنوقراط، أو لنغرق في التفاؤل ونقول دولة في غزة كتنفيذ لصفقة القرن التي رفضناها سابقاً.
وهنا لا نريد الحديث عن إنجازات في أمور لم تكن مطروحة أصلاً، وإن كانت في الأدراج الإسرائيلية، لكنها بحاجة لما يُفعّلها، كمنع التهجير مثلاً.
التفصيل الثاني هو أن هذا التضامن يتم بالتوازي مع مأساتنا، وبالتالي فهو يكبر كلما كبرت، ويخمد كلما خمدت، ما يعني بالضرورة والمنطق أنه سينتهي بانتهائها، أي بانتهاء شكلها المتوحش واللا إنساني.
ويكفي هنا أن نورد مثالاً بسيطاً يتعلق بإلغاء التصويت حول عدم مشاركة إسرائيل في مسابقة اليوروفيجين، بمجرد التوصل إلى وقف هش لإطلاق النار في غزة. وكما حدث في اليوروفيجين حدث في الفيفا، وهنا أيضاً لا نريد الحديث عن ردود الأفعال العالمية على فيديوهات القتل خارج القانون، وما تسببت به لدى المتضامنين قبل الأعداء، فهذه قصة أخرى.
لا يخفى على عاقل أننا في أسوأ مراحل القضية الفلسطينية على الإطلاق، ولا يجوز لنا في مرحلة كهذه أن نقوم بتضخيم أي منجز، حتى لو بدا لنا كبيراً كالاعترافات الأخيرة بالدولة الفلسطينية. فكل من اعترفوا بنا لم يستطيعوا، على سبيل المثال لا الحصر، أن يقاطعوا كلمة ترامب الطويلة والسخيفة في شرم الشيخ، أو أن يحتجوا على خلوّها من أي إشارة للفلسطينيين وقضيتهم السياسية المحقة، فكيف نتوقع أن يفرضوا رؤاهم عليه.
ما أريد الوصول إليه في النهاية هو السؤال البسيط التالي: هل قصر الطريق نحو تحقيق أهدافنا بفعل ما جرى خلال العامين المنصرمين، أم ازداد طولاً، أي هل اقتربنا من الدولة المستقلة على حدود السابع من حزيران أم ابتعدنا؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن تخضع الإجابات عنه لحوار وطني حقيقي. حوار ينتشلنا من هذا الهوس بفكرة النصر على الأنقاض، حوار يستدعي تضامن العالم مع حقنا وجدارتنا بهذا الحق، لا مع دمنا ولحوم أطفالنا. حوار يتجاوز الفصائل إلى شرائح المجتمع كافة، وخصوصاً أولئك الذين وقع عليهم الضرر الأكبر في غزة.
حوار يسمي الأشياء بمسمياتها لا بنقيضها المريح، فالنصر له معايير وأدوات قياس، والهزيمة كذلك.
حوار بلغة المصالح والأهداف ولغة الممكن وغير الممكن، لأن الشعر لا يحل المشكلة، والطرب الديني لا يلغي الكارثة، والشعار مهما بدا رومانسياً وبليغاً لا يداوي الخيبة، بل يرهن مصير شعب كامل بالعثور على جثة.