تاريخ النشر: 18 تشرين الأول 2025


آراء
وهْــم الإعــمــار...
الكاتب: رامي مهداوي

غزة، اليوم، ليست مجرد مدينة جريحة، بل مرآةٌ تعكس فشل العالم في امتحان الإنسانية، وفشلنا كفلسطينيين في امتحان الوحدة. صورها الأخيرة التي بثّتها القنوات العربية والعالمية لم تعد تحتاج إلى تعليق أو تحليل؛ فالمشهد وحده كافٍ ليختصر قرناً من الألم. أبراجٌ مهدّمة، شوارع تحوّلت إلى أخاديد، وجوه ذاهلة كأنها خرجت من رماد الأساطير. هناك، حيث كان الأطفال يركضون إلى مدارسهم، صارت الأرض مسرحاً لركام وبقايا ذكريات.
بعد عامين من حربٍ طاحنة أكلت الأخضر واليابس، يطلّ السؤال نفسه كما في كل مرة: من سيُعيد إعمار غزة؟ لكن السؤال الأعمق – وربما الأكثر إيلاماً – هو: من سيُعيد إعمار الإنسان الغزّي؟ من سيُرمم تلك الأرواح التي عاشت الحصار والدمار والنزوح، حتى صارت ترى الحياة نفسها استثناءً مؤقتاً؟
لقد أُنهكت غزة ليس فقط بالقنابل، بل بالوعود المكرّرة أيضاً. مؤتمرات للمانحين تُعقد في فنادق فارهة، وخطط إعمار تُرسم على الورق، وبيانات تضامن تُكتب بلغة منمّقة... لكن حين تهدأ الكاميرات، تبقى غزة وحيدة أمام واقع سياسي منقسم، ومشهد دولي عاجز، واحتلالٍ ما زال يمسك بخناقها.
الإعمار ليس فعلاً هندسياً كما يظن البعض، بل هو قرارٌ سياسي أولاً وأخيراً. فكيف يمكن بناء مدينةٍ بلا ضمانٍ بألا تُهدم مجدداً؟ كيف يمكن لرجال الأعمال أن يستثمروا في أرضٍ لا تعرف متى تُعلن صفارات الإنذار القادمة؟ من يضمن للطفل الذي فقد بيته، اليوم، ألا يفقد مدرسته غداً؟.
في تسعينيات القرن الماضي، كان الأمل كبيراً بعد توقيع اتفاق أوسلو. هرع المستثمرون، وبُنيت الفنادق والمناطق الصناعية، وتحدث الجميع عن «غزة الجديدة» التي ستصبح بوابة الدولة الفلسطينية المنشودة. لكن سرعان ما تحوّل الحلم إلى صراعٍ على النفوذ، وتنافسٍ على الحكم، فانقسمت الجغرافيا، وتصدّعت السياسة، وبقيت غزة رهينة بين الاحتلال والانقسام.
اليوم، يعاد المشهد ذاته بوجوهٍ جديدة، لكن بالخطاب نفسه. هناك من يتحدث عن «إعمار سريع» و»خطة دولية كبرى»، وكأن الخراب مجرد فصل عابر في رواية متفائلة. غير أن الحقيقة أكثر تعقيداً: لا إعمار بلا استقرار، ولا استقرار بلا مصالحة حقيقية، ولا مصالحة بلا رؤية سياسية واضحة تُنهي مرحلة التناحر الداخلي وتضع حداً للاحتلال.
الكاتب الأميركي هنري لوينستاين كتب في «نيويورك تايمز»: «من سيستثمر في مدينة لا ضمان لعدم اندلاع الحرب فيها من جديد؟» سؤال بسيط لكنه يختصر المأزق كله. لأن غزة ليست بحاجة إلى إعادة بناء الجدران فقط، بل إلى عقدٍ وطني جديد يضمن ألا تتحول المدينة إلى مسرحٍ دائم للحروب والتجريب.
لقد أصبحت غزة في الوعي العربي والدولي عنواناً دائماً للكوارث، وصار الحديث عن إعمارها حدثاً متكرراً يُستحضر بعد كل حرب، كما لو كان طقساً سياسياً موسميّاً. ولكن الإعمار الحقيقي يبدأ حين يُعاد بناء الثقة بين الفلسطينيين أنفسهم، قبل أن تُعاد هندسة الإسمنت والحديد. لأنه من دون وحدة سياسية، ستظل كلّ خطة إعمار معرضة للانهيار مع أول انفجار سياسي أو أمني.
غزة لا تحتاج إلى المزيد من الشاحنات المحمّلة بالإسمنت بقدر حاجتها إلى رؤية تبني الإنسان قبل البنيان. تحتاج إلى مدارس تُعلّم الأمل، إلى مشاريع تُعيد الحياة لا تكرّس الفقر، إلى إدارة تضع المصلحة الوطنية فوق الحسابات الفصائلية. فالبنية التحتية مهما كانت متطورة لا يمكن أن تصمد في وجه عقلٍ مدمّر أو إرادةٍ منقسمة.
ومن دون حلّ سياسي عادل، ستبقى غزة مدينة تُبنى على الورق وتُهدم على الأرض. سيبقى سكانها ينتظرون إعماراً لا يأتي، وسلاماً لا يولد، ودولةً لا تُعلن. لهذا، فإن السؤال، اليوم، ليس عن حجم المساعدات أو عدد الدول المانحة، بل عن القدرة على تحويل هذه المأساة إلى نقطة بداية جديدة، لا إلى فصلٍ إضافي في رواية الدمّ والركام.
حين تُبنى المدن تُخلق فيها الحياة، لكن حين تُبنى بلا رؤية تُهدم الأحلام. وغزة، التي وُلدت من رحم النار عشرات المرات، تستحق أن تُبنى هذه المرة لتعيش، لا لتُدمّر من جديد. فالاستقرار هو حجر الأساس في أي إعمار، والسلام هو الإسمنت الذي يربط حجارة المستقبل. ومن دونهما، ستظل كل محاولةٍ للبناء مجرّد وهمٍ جميل فوق رمالٍ متحركة.